إبراهيم عبدالله العمار
في عام 1817م استقبل المتحف البريطاني تمثالاً ضخماً للفرعون رمسيس الثاني.
كان نابليون قد حاول الاستيلاء عليه وإرساله إلى فرنسا، لكن فشل بسبب حجم التمثال وصعوبة نقله، واستطاع أعداؤهم الإنغليز ذلك بجهد جهيد، وما زال إلى اليوم معروضاً هناك، تحديداً أعلاه، لأن أسفله فُقِد. وتنظر إلى هذا التمثال وإلى وجه الفرعون البارد وتتساءل: ماذا يدور في باله؟
لعلها الفتوحات، فرغم أن رمسيس الثاني لم يكن أعظم الفراعنة عسكرياً إلا أنه جهز جيوشه بكفاءة وحمى مُلكَه من الأعداء. لكن لا ندري ما إنجازاته الحقيقية، لأنه تميّز بالكذب! كان الفراعنة يضعون إنجازاتهم العسكرية باستمرار على معابدهم وقبورهم، أما رمسيس فلم يكتف بذلك بل أتى إلى نقوشات مَنْ قَبْله فشطب أسماءهم من فتوحاتهم ووضع اسمه مكانهم!
بَرعَ رمسيس الثاني في الدعاية والبروباغاندا، ولهذا نجد له عدداً هائلاً من الآثار والتماثيل، منها تماثيل وضعها في مبانٍ لم يبنها. غطى منطقة شاسعة بالتماثيل والمباني، منطقة تمتد من شمال النيل وإلى الجنوب في بلاد النوبة، وهو شيء لم يفعله فرعون قبله قط، ومما ساعده أنه حكم مصر 66 سنة، أطول فترة حُكم في تاريخ مصر القديمة وإحدى أطولها في تاريخ البشر. كانت التماثيل والمعابد محاولته لتخليد اسمه، ذلك أنه نصب نفسه إلهاً، ودعا الناس أن يعبدوه، ولم يكن هذا نادراً بل الفراعنة رأوا أنهم أتوا من نسل آلهتهم، وفي مصر هناك ما يشبه المدينة الصغيرة زاخرة بآثار رمسيس الثاني، ولم يكتف المصريون بعبادته في عصره فحسب بل حتى بعدها بألف سنة كانوا يعبدونه في زمن الملكة كليوبترا (نعوذ بالله).
تشييد هذا التمثال لم يكن بسيطاً. طول الجزء العلوي 8 أمتار ووزنه 7 أطنان. اقتُلِعت قطعة ضخمة من حجر الغرانيت لا تقل عن 20 طناً من أسوان على بعد 150 كم، ونُحِتت ملامح الفرعون العامة، ثم سحبوها على زحّافات إلى النيل، ومن هناك أركبوها قارباً خشبياً إلى الأقصر، ومن ثم سحبوها براً للمعبد، وهناك بدأوا في النحت الدقيق لبقية ملامحه. احتاج المشروع آلاف الناس والذين دُرِّبوا ونُسِّقوا وأديروا من قِبل الدولة والتي أيضاً أطعمتهم وبيّتتهم ريثما ينتهي المشروع.
لما اكتُشَف التمثال أثار موجة دهشة وإحباط في أوروبا، فالغربيون يعشقون الحضارة اليونانية القديمة ويتغنّون بها إلى اليوم، رائين أنها أعظم حضارات التاريخ وأساس الحضارة المعاصرة كلها، لكن اكتشاف ذلك التمثال وغيره من الآثار المصرية القديمة والتي سبقت اليونانيين بأكثر من ألف سنة غيّر هذه الفكرة، وأظهر أن قدماء المصريين أساتذة الفن والحضارة، وهذا ما دار في خلد الأديب الإنغليزي بيرسي شيلي عام 1818م والذي تسمَّر مذهولاً لما رأى لأول مرة ذلك التمثال في المتحف البريطاني، ولما أفاق من انبهاره كتب أشهر قصائده، يتكلم فيها بلسان أوزيماندياس (الاسم اليوناني لرمسيس الثاني)، فيقول: «اسمي أوزيماندياس، أعظم الملوك، انظروا إلى منجزاتي يا ملوك الأرض، وابتئسوا غماً وحسداً».