كنت في المرحلة الثانوية، وكان شاباً مميزاً في أدبه وأخلاقه، يكبرني ببضعة أعوام، وكنت - ولم أزل - أكن له ما يليق بصفاته من تقدير ووئام، وأنظر إليه نظرة التلميذ لأستاذه؛ اسمه «طلعت؛ الأستاذ طلعت»، يعمل معلماً في دولة الكويت ولم يزل وأسرته يقيمون فيها، وكان في كل عام يقضي إجازته بين أهله وأحبته في مخيم دير البلح الحبيب في قطاع غزة بفلسطين الغالية، وكان - تقريباً - المغترب الوحيد في محيطنا، فكان أهل الحي يفرحون فرحاً كبيراً حين قدومه من غربته، ويملأ الحزن قلوبهم حين عودته، وكذلك أنا؛ بل كنت أشعر أنني الأكثر فرحة به وبأسرته، وكنت أحرص أشد الحرص على زيارته حين قدومه وقبيل عودته، وكم كانت تغمرني السعادة وأنا أرى الابتسامة تحاكي وسامته وزوجته وأبناءه؛ أعني الوسامة بمدلولها الشامل؛ في ملبسهم، ومأكلهم، وجلستهم، وأحاديثهم، وحتى في صمتهم، كنت أرى ملامح الغربة تعانق جمالهم وبهاءهم، فوجدتني أُلبس الغربة ثوباً زاهياً، وأضعها أمام ناظري حلماً أتطلع إليه بعين الرجاء.
وتحقق الرجاء، فأصبحت شريكاً له في غربته.
ولما ذهبت لقضاء إجازتي السنوية الأولى، كان هو قد سبقني إلى هناك، فعلم بقدومي، فأسعدني بزيارة جميلة مازلت أتذوق حلاوة حميميتها، وأثناء الجلسة سألني عن الغربة وأحوالها، فاعتدلت في جلستي مبدياً أهمية ما سأقول، وبالطبع سبقت ابتسامتي إجابتي التي قلت فيها: «أصدقك القول يا أستاذي: إنني عاتب عليك».
فاعتدل هو كذلك والابتسامة تملؤه وقال: «يا ساتر، عتبك مقبول، ولك العتبى حتى ترضى، لكن هلا أفصحت؟
فأجبت: أجل؛ سأفصح: «عاتب عليك يا أستاذي لأني رأيت الغربة فيك وفي أسرتك لوحة جدارية تزهو بخيوطها، وتختال بألوانها، وتنتشي بخطوطها، رأيتها واحة غناء تزدان بأغصانها، وأزهارها، وأطيارها، حتى بت أتمناها، ولما تحققت لي، وعايشت قسوة البعد عن أحبتي وحرماني منهم، وذقت لوعة الشوق وتجرعت عذاباته، كنت أهامسك داخلي «سامحك الله يا أستاذ طلعت وأصلحك؛ لم لم تخبرني ولو باليسير عن سهدك، ووجعك، ودمعك.
بالطبع كان الحوار يتسم بالفرح والمرح، فضحكنا من أعماقنا، وكم كان رائعاً وهو بأسلوبه الأنيق الرقيق يقول: «يعني أتريد المرارة لي أنا وحدي؟»
ثم اتفقنا أن الغربة والدواء صنوان؛ طعمهما مر، لكن الحاجة لهما ملحة.
- كاتب فلسطيني مقيم في الرياض
aaajoudeh@hotmail.com