د. حمزة السالم
تأملت في ولاء الشعوب لقائدها الأعلى، فوجدته شرطاً لازماً في قوة أي إمبراطورية أو مملكة، وفي دوامها، وعلى قدر حقيقته يكون ازدهار الشعوب وعزها. فهذه الدول الغربية، وهذه أمريكا تفدي اليوم رئيسها ونصفها له كاره كما فدى النصف الثاني رئيس أمريكا الأسود وهم له كارهون. وهذه اليابان لم يتأثر ولاؤها بزوال ألوهية إمبراطورها. وما انتهك اليابانيون الولاء لصلح الإمبراطور مع الأمريكان وما تبعه من تبعيات بعد ذلك تخالف أعظم أصول ثقافتهم الثابتة المتوارثة لآلاف السنين. فالذي يظهر عندي أن الولاء والوفاء والغدر كالشجاعة والجبن أمور فطرية.
وليس المقصود من هذا المقال والذي قبله الدعوة إلى استنساخ الولاء الياباني أو الأمريكي. فهو ولاء فطري ثقافي. إنما مقصود هذا المقال تبيين أهمية الولاء للقائد الأعلى، في الأزمات، وأن الولاء والصبر على الطاعة هو سر نصر الأمة وبلوغ المجد والعز، وتحصيل الغنى والنهوض من كبوات الزمان.
ونحن اليوم نعيش في أمن وسلام، وننعم بنظام مستقر والعالم يموج ويتلاطم من حولنا، ومكائد الطامعين والمتربصين من أعدائنا قد اشتد سعارها وتطاولت نيرانها. فهي تتربص بنا وببلادنا لتستخف بطيش الطائش من شبابنا، وتتلاعب بشهوات نفوس الحالمين من أبنائنا وتسعر نار الغيرة في قلوب الحاسدين من قومنا، وتغري الطماع من أبناء جلدتنا فيسيل لعابهم لانتهاب موارد بلادهم وإخوانهم وعشيرتهم، وتعبث بالقصاصين فتحرك شهوتهم لنشر الأكاذيب والإشاعات فتُعين الأعداء في محاولاتهم لتفتيت وحدة الوطن. فالصبر الصبر على هوى شهوات النفوس. ولنلجم لجام الفطر الطبيعية فينا من الغيرة والحسد والطمع والتنافس الهدام. ولنستجلب الولاء للقائد الأعلى، ففيه غلبة الأعداء اليوم، وفيه النصر والفوز لنا ولأجيالنا غداً.
ولننظر كيف صبر اليابانيون على الأمريكي المحتل وهو يصول ويجول في بلادهم المدمرة، وفاء لإمبراطورهم فلم يتعذروا بمخالفته الصريحة لأصول دينهم ولم يتهموه بالعمالة، ولم يسمحوا لآلامهم وثاراتهم وفقرهم وجوعهم وأحزانهم أن تتغلب على ولائهم وهم يرون إمبراطورهم في جنته الدنيوية مُنعماً ومع عدوهم الأمريكي تابعاً ومصاحباً، وإن الصبر على هذا لهو البلاء المبين عند الياباني آنذاك. فقد صبروا ولم يتأولوا، تماماً كما صبر المسلمون ولم يتأولوا في الحديبية. وكما صبر الأنصار على أثرة الغنائم في حنين، يُحرَمون منها، ويُكرم بها قتلة أبنائهم وآبائهم. وكصبرهم - رضي الله عنهم - في ذهاب الخلافة والملك والإمارة منهم يوم السقيفة، وهم مَن حضنَ الدين ونصروه وأقاموا دولته. وكما صبر المسلمون لعزل الفاروق خالداً وغمده سيفاً من سيوف الله سله نبيهم. فبالولاء والطاعة وترك التأويل وضبط شهوات النفس وكتم الغيظ فاز المسلمون من قبل كما فاز اليابانيون بالأمس.
وكما تأملنا عاقبة ولاء اليابان، فلنتأمل كم خسر المسلمون عندما تأولوا فأخلوا بتمام الولاء بمعارضة أمير المؤمنين عثمان. فتمكن عدوهم من تحريك نزعات الشهوات فيهم وفتح عليهم أبواب التأويلات. فهم والأمة الإسلامية في فتن نتوارثها إلى اليوم. فهم هناك في الأندلس كما هم في دمشق وبغداد والقاهرة وغيرها، يتآمر الأمير على أخيه الخليفة، ويكيد ابن العم بابن عمه الحاكم في مقامرة لا تصل احتمالية كسبها قدرَ ذرة من شر خسارتها.
وما أجمل قول المتنبي: «وكلُّ وِدادٍ لا يَدومُ على الأذَى.... دَوامَ وِدادي للحُسَينِ ضَعيفُ، فإنْ يكُنِ الفِعْلُ الذي ساءَ واحِداً.... فأفْعالُهُ اللائي سَرَرْنَ أُلُوفُ»