د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
اتسعت شهرة كثير من النقاد العرب القدامى بسبب آرائهم النقدية التي خلدوها في آثارهم، وصار نقدهم مداراً واسعاً للمدارسة والبحث من قبل العديد من الدارسين الذين أثروا المكتبة الأدبية بالغزير المفيد، وإلى جانب أولئك النقاد المبدعين كالجاحظ والجرجاني والآمدي وقدامة كان هناك كوكبة من (نقاد الظل) الذين لم يكتب لهم ذلك الوهج العلمي الذي صاحب المشاهير، ولعل من أبرزهم إبراهيم بن علي الحصري القيرواني المتوفى سنة 453هـ صاحب كتاب (زهر الآداب وثمر الألباب)، ولعل هذه المقالة تكشف عن شيء من جهوده النقدية فيه.
يعد الكتاب مجموعةً واسعةً من المختارات التي جمعها القيرواني وفقاً لذوقه، ويظهر أن الكتاب كالعقد الفريد، نسخة مغربية لأدب مشرقي، وقد كشف عن هذا حين ذكر أنه ألّفه تلبية لرغبة شخص اسمه العباس بن سليمان، أحب أن يجمع له مختاراً من أدب المشرق، أما منهجه فيه فقد نص عليه في قوله: «ولم أذهب في هذا الاختيار إلى مطولات الأخبار.. وهو كتاب يتصرف فيه الناظر فيه من نثره إلى شعره، ومطبوعه إلى مصنوعه، ومحاورته إلى مفاخرته، ومناقلته إلى مساجلته، وتظهر في التجميع إفادة الاجتماع، وفي التفريق لذاذة الإمتاع.. إذ كان الخروج من جد إلى هزل، ومن حزن إلى سهل أنفى للكلل، وأبعد عن الملل».
ويمكن أن يصنف الكتاب بأنه من الكتب التي مارست النقد من خلال المصنفات الأدبية، ومثل هذه المصنفات تكون المسائل النقدية فيها ضائعة في ثناياها لأنها وردت في كتب لم تخصص للنقد، إضافة إلى ما تتسم به غالبا من حرية المنهج، وهو ما ذهب إليه الدكتور أحمد يزن في كتابه (النقد الأدبي في القيروان في العهد الصنهاجي).
وفي ثنايا الكتاب جملة من الآراء النقدية كانت تبرز بصورة تطبيقية، إذ تحدث المؤلف عن فضل الشعر ومكانة قائليه، ونقل كلاماً فيه عن عمر رضي الله عنه وشعراً عن أبي تمام وبعض أهل الأدب، كما تناول الموازنة بين الشعراء: إن الموازنة بين الشعراء التي كانت ظاهرة رافقت النقد العربي منذ وجد، واتخذها النقاد مقياسا لبيان أي الشاعرين أشعر، وقد كان الحصري كثيرا ما يقوم بالموازنة في خاصية معنية كالصنع أو المعاني أو الألفاظ أو غيرها، فيفاضل بينهما مظهراً أوجه الاتفاق والاختلاف عندهما، وما ينفرد به أحدهما عن الآخر، وغالبا ما ينقل هذا النوع من الموازنة وغيرها، كموازنته بين جرير والأخطل والفرزدق، والموازنة التي نقلها عن الحاتمي بين الطائيين.
وتناول الحصري قضية السرقات الأدبية تناولاً علمياً في ثنايا مختاراته الشعرية والنثرية، فعرض رأيه في هذه القضية مبيناً أن مِن حق مَن أخذ معنى قد سبق إليه أن يصنعه أجود من صنعة السابق إليه، أو يزيد عليه حتى يستحقه، أما إذا قصر عنه فهو مسيء معيب بالسرقة مذموم على التقصير.
وكانت طريقته في التنبيه على وجود سرقة أو أخذ معنى تتلخص غالباً في إيراد أبيات شعرية في معنى من المعاني ثم التنبيه إلى أن شاعراً آخر سبقه إلى هذا المعنى، أو بقوله: أخذ هذا من قول الآخر. وهو من النقاد الذين يرون أن السرقة تكون في جنسي الأدب الشعر والنثر، وعلى كل فإن حديثه عن ظاهرة السرقات لا يحوي جديداً ذا أهمية كبرى، لأن جلها مما خرَّجه النقاد السابقون، اللهم إلا تنبيهه إلى ما أخذه شعراء المغرب من معاني شعراء المشرق.
كما أشار إلى قضية الطبع والصنعة التي تعد من المسائل النقدية المهمة التي شغلت النقاد والأدباء في القرن الرابع الهجري وكان لهم فيها آراء متباينة، وهو يرى أن الكلام المبني على الطبع الجيد مقبول، ومن شأنه أن يسهل على المرء ما يرومه، كما أن المصنوع يضفي على الكلام حللاً من الزينة والحسن، إلا أنه ينبغي لصاحب الصنعة أن يتجنب التكلف، وذلك بأن يهذب المعاني ويقد الألفاظ على ما اقتضته قدود المعاني.
أما صاحب الطبع فيجب عليه أيضاً ألا يقبل كل ما يهجس به خاطره من غير إعمال النظر وتدقيق الفكر؛ لأن ذلك يخرجه إلى المشتهر الرث، وحيز الغث، وينتهي الحصري إلى رأي وسط في هذه القضية فيقول: «وأحسن ما أجبر عليه، وأعول عليه، التوسط بين الحالين، والمنزلة بين المنزلتين من الطبع والصنعة»، ولكن عمله في الأدب لم يتقيد بهذه النظرة النقدية السليمة، فهو وإن أرسل كلامه حينا وفق طبعه وسليقته، فإنه كثيرا ما ينساق وراء الصنعة.
ومن قضايا الكتاب وحدة القصيدة، والحصري في هذا الموضوع لم يبدِ رأياً شخصيا، وإنما اختار من التراث ما يمثل وجهة نظره، فقد اختار مقولة الحاتمي التي توجب توفر الوحدة في القصيدة، وأن العمل الأدبي المتحد يجب أن يكون كجسم الإنسان، هذا إلى جانب قضايا نقدية أخرى ألمح إليها في مواضع متفرقة، كالإطالة والإيجاز، والمعاني والألفاظ، والنسيب في القصيدة.
إن كتاب الحصري -كما يرى بعض النقاد- ليس بذلك القدر من الخطورة التي أشار إليها زكي مبارك، لكنه مع ذلك يبقى كتاباً أدبياً محملاً برشقات نقدية، وما أحسن ما ذكره أحدهم حين قال: «تتجلى شخصية الحصري في تلك اللمحات النقدية السريعة، وقدرته على تتبع المعنى وتداوله بين الشعراء، لقد كان الحصري جامعاً للأدب وللآراء النقدية معا».