لم تكن القضية أنني استطعتُ حينها دفع قيمته فعلا. الحقيقة أنني لم أستطع يوماً دفع قيمة قميص نوم فاخر غالي السعر. خاصة أن ذلك الوقت كان وقت عدم استقرار سكني ومالي ومشاعريّ؛ حياتي كلها لم تكن آمنةً يومها. بلغ بي سوء الحال أني كنت مترددة في زيارة طبيب الأسنان بسبب الظروف المادية الذي أمر بها، فأحد أسناني كان يرقد غيرَ سليم ولا معافى بجوار سريري، كتحفة داخل صحن.
ولكني فعلاً أردتُ قميص النوم ذلك بشكل ملحّ جداً. تاقت له نفسي كما لم تفعل لأي شيء منذ طفولتي، بل هي ما أردتُّ مذ كنت طفلةً: حلمٌ مؤنث، وجميل وتافه. لمسةٌ رقيقةٌ من اللباس القطني الخاص، فاخر جدا وثمين جدا حتى أنني أحلق من خلال سعره? دون التأثر به? لمملكة سماوية وعالم آخر.
سأعتبرها هديةً ليوم مولدي، أو هديةً لكوني عازبةً. بسبب أو بدونه، سأدلل نفسي به وكفى بالقماش دلالا وكفى بالدلال سببا. ألا يجدر بنا تقدير أنفسنا أحيانا؟! أخذت المال الذي كنت قد جمعته منذ زمن وسافرت خلال المدينة، عبر نقلها العام، إلى الزاوية التي يقع فيها محل الأقطان الفاخرة المشهور. أثناء الطريق تحسّس لساني فراغ سني المضطجع بجوار سريري، كأنّه يلومُ قليلاً، لكنني تجاهلته تماماً.
داخل المحل كانت زهور الفريزيا تملأ المكان عطرا جميلاً؛ على جدرانه صورٌ لزوجات رؤساء وأميرات ووجيهات من العالم كله. جلستُ في زاوية أقمشة مستلزمات غرف النوم. جبل كالألب من الوسائد وأغطية فاخرة ومِلاءات رقيقة كرقاقات البطاطس.
كنتُ قد احتطت لمسألة مظهري في هكذا مكان، وذلك لتصوري -الخيالي طبعا- عن مظهر زبائن مثل هذا المحل، ورغم احتياطي فقد كان عدم انتمائي لمجتمع المحل ظاهرا، كما هي دهشتي؛ فقد كنت فاغرة فمي غير مبالية إن كان محط انتباه لأحد. سألتُ إحدى العاملات: «أين قسم ملابس النوم؟» فأخذتني لرفّ عليه أرق وأفخم وأجود ما يمكن أن يكون القطن، نسيج متقن بمثالية فائقة.
تناولت قميص النوم الذي طالما أردته، حملته برفق؛ كنتُ أحدق في راحتي يديّ من خلال هذا السحر الرقيق ذي الطبقتين وأستنشق عطر الفريزيا من خلالهما. كانت قيمة العلّاقة المغطاة بالإسفنج والقماش والمحفور عليها المحل وحدها أربعة وثلاثين دولاراً، فكم هي قيمة ما تحمله يا ترى!
«سأشتريه» قرار لا رجعة فيه.
«حسنا.. حسنا.. وجدتِ ما تريدين؟» قالت إحدى العاملات وهي ترمقني بنظرها من أعلى إلى أسفل؛ أظنها كانت تقيس جسدي ببصرها. «أتريدين تجربته؟» قالت السيدة.
«لا، لا حاجة لهذا، فهذا هو قياسي» رددت عليها «وهكذا كان دائما».
«يمكنك إعادته إن كان ضيقا جدا»، ردت السيدة مجددا.
انشغلت السيدة العاملة قليلا ثم انفتح الباب ودخلت علينا مستعجلةً امرأةٌ حاملٌ جداً؛ كأنها كانت ستضع حملها تلك الساعة. شعرها المصبوغ يطير خلفها وحذاؤها المسطح الفاخر يداعب سجاد المحل. قالت موجهةً خطابها لي: «الوقت يجري سريعا، وأحتاج شراء مستلزمات السرير لغرفة المستشفى، فموعد ولادتي الأسبوع المقبل».
وفي وقت سريع وقياسي جدا، تناولت المرأةُ بمساعدة البائعة مجموعةً من الأغطية مشجرّةٍ بالورود، وملاءات مطرزةٍ بالقلوب، وبعض الوسائد. كان مجموع قيمة ما أخذت فلكيا، صرفت هذه السيدة عشرة آلاف دولار في دقيقتين. ثم قالت: «سآخذ كذلك الوسائد التي أحتاج إليها لوقت النفاس، كما أن ليزا ستتواصل معكم بشأن أقمشة سرير الطفل».
مرت بطاقتُها البلاتينية على جهاز الدفع وانتهت زيارتها للمحل!
لم تكن هذه نهاية الحكاية!
بعد سنوات من زيارة طرفة العين لذلك المحل؛ ذاك المرور العابر في حياة المترفين، وجدت نفسي في سوق شعبية للحاجيات المستعملة. الحقيقة أن المرور على هذه الأسواق موروث عائلي عريق وتختلف الحاجة للمرور عليها بحسب فارق السن بين أفراد عائلتي. نشعر بحلاوة في المساومات وفحص جودة البضاعة المشتراة. ومن الطرائف أن أمي تطلب أحيانا التأييد لنيتها أن تشتري حاجة محددة بقولها: «تخيلوا قيمة هذه القطعة في محل تحف قديمة في قلب المدينة الفاخر؟» طبعا جوابنا على استشارتها معروف سلفا؛ فليس لنا إلا أن نؤيدها طبعا.
كان يوما جميلا تسكعت فيه في ممرات السوق أقلّب بصري بين المعروضات؛ ما بين منفضة سجائر زجاجية برتقالية اللون مثلومة المنتصف، ومنشفة لليدين مطرز عليها حروف بجوار كلمة أصدقاء، وغيرها من النوادر. قلت لنفسي إن هذا الممر هو الأخير في رحلة اليوم في السوق. فجأة، لفت نظري حقيبةُ سفرٍ مليئة بالأقمشة لدى أحد «المحلات». كان لدى المحل الكثير من التحف ولوازم المنزل التي كانت تسوّق لها بائعة أمام المحل، ولكن يدي ذهبت دون مشورتي لتلمس الأقمشة في تلك الحقيبة؛ لتلمس قطنا فاخرا جدا، شبه شفاف. كانت القطعة التي لمستها كسوة وسادة فاخرة.
قالت البائعة: «هذا القماش قديم جدا لكنه عالي الجودة».
خاطبت نفسي ردا على تعليقها: «أعلم جيدا أنه كذلك، أعلم جيدا أنه عالي الجودة. أعلم تماما أن هذه الكسوة تساوي أكثر من ثلاثمئة دولار على الأقل عند بيعها جديدةً حيث تنتمي علامتُها واسمُها. أعلم أنها زائرة كرسول من عالم آخر لا ينتمي لهذا المكان؛ عالمٍ معطّرٍ بالفريزيا».
اشتريت كسوة الوسادة بخمسة دولارات فقط!
كانت هذه هي أعظم صفقة أجريتها كمتسوقة على الإطلاق. وكان يجب علي أن أكون سعيدة جدا، لكنّي لم أكن تماما كذلك. عندما وصلت إلى المنزل ذهبت مباشرة لغرفة نومي، نزعت كسوة وسادتي القديمة ووضعت مكانها سفيرة الفريزيا، ثم وضعت رأسي مستلقية عليها وناظرة إلى الأعلى، ولكني صدمت بأني لم أجد السحر الذي توقعته، بل في الحقيقة لم يكن الشعور مريحاً. «ماذا عن نسيجها الفاخر؟» هكذا كنتُ أوبخ نفسي قائلةً: «تعلمين أن هذه تباع بثلاثمئة وخمسين دولاراً على الأقل؟!»..
أجبت نفسي قائلة: «لم أعد أبالي»!
... ... ...
- سايدي ستاين 2016 The Paris Review
ترجمة/ حمد فهدالشمري - ملبورن، أستراليا
تويتر: @AlshammariHamad