د. إبراهيم بن محمد الشتوي
وبناء على هذه الخطاطة لحبكة النص نجد أن هناك انقلابًا في موقف «لوليتا» من الكاتب؛ فبعد أن كانت تريد أن تقتله، وقد أشارت إلى ذلك في أحاديثها حول رأيها فيه.. فبعد أن أصبحت ترغب في أن تقتله لترسله إلى جهنم فوجئت بأنها تقع في حبه، وتريد أن تكون معه في الجنة، وتلح عليه أن يصلي، وأن يقرأ القرآن، وهو موقف استرعى انتباهه بناء على الحياة التي تعيشها، مما دعاها إلى القول إنها تؤمن بالله، بالرغم مما تقوم به في ظاهرها، مما جعل حساباتها تختلف كلها، وأصبح موقفها منه مختلفًا، وموقفها أيضًا من عالمها كذلك.
وهذا يعني أن لديها قيمًا مضمرة، وقيمًا خارجية، وهي الثنائية التي أشرنا إليها من قبل، وحتى تستطيع أن تعيش حياتها الخارجية، مع الاحتفاظ بقيمها الخارجية، كانت تعتمد بعض الحيل النفسية القائمة على احتقارها لعالمها الظاهر، ونبذها له؛ حتى تتمكن من مواصلة الكذب، والاستمتاع به، وبالخزي الذي تراه عارًا وشنارًا وكفرًا بواحًا بناء على قيمها الباطنة؛ لتكون خارج محاسبة الضمير.
الأمر الذي يعني أن موقفها لم يعد من عالمها كما كان على سابقه؛ فقد صحا ضميرها، وأدركت أن قبح العالم المحيط بها لا يعطيها المبرر بالكذب، والخداع؛ الأمر الذي ضاعف ما تشعر به من صراع داخلي، وجعلها تؤكد رغبتها بالانتحار.
بيد أن السؤال عن سبب إقدامها على قتل نفسها لم ينته، فإذا كانت تريد أن تخلصه من المكيدة التي تدور حوله فإن إخبار الشرطة المكلفة بحراسته أيسر بكثير، وبإمكانها أن تتحول إلى عميل مزدوج، فترتب مع الخلية الإرهابية موعدًا لقتله، لتوقع بهم، مما يساعد الشرطة في الكشف عن بعض الخلايا الإرهابية في فرنسا، وهذا يخرجها من دائرتهم إلى الدائرة الأمنية، ويحفظ لها حبيبها، ويكفل لها أن تستمر في الحياة التي تختارها بعد ذلك، ولكن يبدو أن هناك أمرًا يمنعها من القيام بهذه المهمة، ويجعل خروجها من دائرتهم أمرًا ليس ميسورًا، وأنها مكرهة على أن تقوم بما تقوم به معهم، وإلا فإن هذا سيجعلها هدفًا للتصفية عند هذه الجماعات وغريمًا لا بد من الانتقام منه؛ الأمر الذي سيجعل حياتها بخطر، ويجعل الخوف يسيطر عليها، فلا يمكنها من الاستمرار به؛
الأمر الذي يعني أن انضمامها إلى الجماعة الإرهابية وانصياعها إلى أوامرهم كان رغمًا عنها، وكان بناء على بعض الظروف القسرية التي مرت بها، وجعلت لهم يدًا عليها، وقد مر من قبل أن صلتها بهم بدأت منذ أن كانت مع والدها؛ الأمر الذي يعني أنها قد تشربت أطروحاتهم من قبل، وآمنت بها بوصفها الأطروحات التي ينتمي إليها أبوها، ولم تشك يومًا أنها أطروحات خاطئة، وحين بدأت تشك في ذلك بعد التجربة العنيفة التي عانتها من والدها بدأت تعيد التفكير في كل مسلّماتها حتى استقرت أخيرًا على رأي واضح بعد معرفتها الكاتب، الذي بدا لها أنه لم يكن قبيحًا كما كانت قد تصورت من قبل، وإنما وجدته رجلاً يحافظ على القيم الأخلاقية أكثر ممن قابلتهم من قبل في حياتها، وقد بدا لها ذلك حين سنحت له فرصة أن ينالها حين باتت في شقته، وتعرت أمامه بحجة التعب والإعياء الذي لا يمكنها من القيام بذلك بنفسها، ثم ساعدها بلبس بعض ملابس النوم دون أن يخطر في باله أن يفعل شيئًا بالرغم من أنها أكدت له قبولها بعد ذلك حين خرجت من مكان نومها في الصالة، ومضت لتنام في حضنه في غرفة النوم، لكنه قام من الفراش وذهب يعد لها الإفطار، وربما كان ذلك هو الفخ الذي تريده أن يقع فيه لتبرر لنفسها الإقدام على اغتياله أو المشاركة فيه، ولتؤكد الرأي المعتمد عليه بأنه خارج عن كل دين، أو قيم، وأن السعي إلى الملذات المحرمة هو هدفه.
إلا أن سقوط هذه الحقيقة لم يكن سقوطًا لها وحدها بقدر ما أدى إلى تهاوي عالم الرمل الذي بنته حيال مجتمعها، والمجتمع المحيط به، حين أصبحت بمواجهة حقيقية في الفارق بين القول والعمل؛ والدها الذي يعلن دعم القيم، والدعوة إلى إقامة الخلافة الإسلامية، وسعى لتحجيب نساء الجزائر، وهذا الرجل المنفلت في باريس الذي يكتب عن قضايا لا يوافقه عليها كثير من المسلمين، وكانت النتيجة صادمة؛ ففي الوقت الذي كان ينتظر من والدها حمايتها إذا هو ينتهك عرضها، بينما يحافظ عليها هذا الرجل الأجنبي، ويحمي رغبتها، واستقلالها، وخصوصية جسدها. وحين سقط هذا العالم شعرت بالعري الشديد أمام واقعها، وماضيها، وأدركت أن ما قد أوهمت أنه عمل صالح في خدمة هؤلاء المفسدين في الأرض إن هو إلا سفك دماء، وأنه لن ينقذها منه ومنهم إلا أن تتمزق أشلاء، وكما يقول المثل: بيدك لا بيد زيد.
وما أريد أن أختم به القول عن هذه الرواية بطريقة تكوينها التي بناها عليها واسيني، وبما قلناه حولها في القراءة، تكشف لنا كيف تشتغل الجماعات الإرهابية، وأي طريق تسلك، سواء في اختيار عناصرها، أو توظيف جنودها، ودمجهم في المجتمع، ثم استعمالهم في تحقيق ما يريدون تحقيقه، وهو مجال للقول في النص لا يزال بابه مفتوحًا.