ياسر حجازي
(أ)
تعني المعجبين بمنظومة قوانينها العلمانية والليبرالية والديمقراطيّة، وما يوفّره النظام الداخلي من صيانة للحريات الفرديّة وحقوق المواطنة والمساواة بين الأوروبيين الأوائل والسكّان الأصليين والمهاجرين الجدد، الساعين إليها سعياً للحريّة والحلم والوجود والاعتراف بالذات، بوصفها «أرض الأحلام» التي لا تضع شروطا على المواطنة والفرصة والحرية متعلّقة بالديانة والعرق، ولا تعنيها من أين جئت وما هي ثقافتك وتاريخك أيضاً، بوصفها «دولة لا عرق لها»؛
تعني أعداءها، والكارهين سياساتها الخارجيّة المفرطة في تعارضها للسياسات الداخلية، والمعاكسة لما تحمله من قيم ومبادئ وأسس علمانيّة سياسيّة وحقوق إنسانيّة في خانة حريّة الأفراد، فلا شيء من هذا متوفّر في السياسات الخارجيّة لإدارة المصالح الأمريكيّة؛ لا شيء من هذه الشعارات والقيم الفاعلة في الداخل الأمريكي تعني واضعي سياسيات أمريكا الخارجيّة، لكنّها، في واقع الأمر، تعنينا نحن ساكني دول الشرق الأوسط، ونحن -شئنا أم أبينا- تأثّرنا ونتأثّر بهذه السياسات منذ منتصف القرن العشرين، وعلى رأس تلك السياسات: التحالف الأمريكي-الإسرائيلي (السياسي).
نلوم الأمريكان أنّها حليفة دولة إسرائيل؟ وفي هذا اللوم ذاته ما يضمر رغبة في تقارب تحالفنا معها؛ ولكن، هل تقدر الأنظمة العربيّة أن ترفع من مستوى التحالف مع الأمريكان وتقلب الطاولة على العدوّ الإسرائيلي، وهل صحيح أنّ مصالح الأمريكان في المنطقة والعالم يمكن أن تكون أكثر فائدة مع الدول العربيّة، عن تحالفها مع إسرائيل؛ هل إدارتنا للعداء العربي الإسرائيلي، والتوتر العربي الأمريكي كانت إدارتنا تميل إلى وجود أنظمة قادرة على حماية مصالحها ومصالح الأمريكان معاً؟ كيف نرضى عن أمريكا؟ كيف ترضى أمريكا علينا؟
(ب)
تزداد نسب المتابعين والكاتبين والمغرّدين والمهتمين في الانتخابات الأمريكيّة، خلالها وبعدها، وليس في هذه المتابعة من غياب عن قضايانا كما تُصدّر بعض كتابات محسوبة على الخطاب الديني، وأخرى محسوبة على اتّجاهات ترى العولمة عدواً كاملاً ودائماً؛ والمتابعة الحفيفة للشؤون الداخلية الأمريكيّة قد يعقبها توازن في فهم أكثر للمركز الأمريكي في سياستيه: (الداخليّة القيمية والديمقراطيّة والحقوقيّة، والخارجيّة النفعيّة اللاحقوقيّة): وليس في المتابعة تأكيد على تبعيّة الفلك الأمريكي، كما أنّ اللامبالاة التامّة تعني في سياقٍ آخر: لا مبالاة في شؤون الشرق الأوسط؛ فالوهم أن لا ترى مركز العالم، بينما تنكره بوسائله وتكنولوجيته؛ أين يمكن أن تكون؟ وأين هو صوتك دون هذه الشبكة الأمريكيّة؟ كيف تشكّ في قيمة وجدوى من تستخدم تطبيقاته وشبكته وأجهزته وأدويته وعلومه ومخترعاته ومنتجاته؟
(ج)
أيّها المسحور بأمريكا حدّ التغاضي عن سياساتها الخارجيّة الشرق أوسطيّة، بينما أنتَ تعيش هنا في شرق المتوسّط، في هذه البقعة من العالم لا يحكمها النظام الأمريكي الداخلي ولا يمسّها حرياتها؛ ألست ترى؟!
وأنتَ أيّها الكارهُ أمريكا حدّ الفوبيا والداعي إلى عدم احترام أيّ أخلاقيات أمريكيّة داخليّة وقد حصرتَ رؤيتك في الخارج الأمريكي وتغاضيت عن أمريكا الداخل، لطالما اعتبرتَ أمريكا «عدوّتك» كيف تدير العداء إذا تجاهلت تفاصيل «عدوّك» قوّته وضعفه، أخلاقه وفساده، كيف إذا لم تر عدوّك سوف تنتصر عليه حسماً كما تريد؟ أو تعايشاً كما غيرك يريد؟
(د)
إذا كانت فترة بوش الابن قد استنزفت خزينة الحكومة الفدراليّة بحروبها الخارجيّة، فإنّها طرحت جديّاً أسئلة الانكفاء الداخلي، ومراجعة فواتير السياسات الخارجيّة وتكاليفها على الداخل الاقتصادي؛ ما فائدة السياسة الخارجيّة إذا كانت هي الهدف، بدلاً من كونها خادمة للمصالح الداخليّة؟! ونحن الآن في فترة أكثر خطورة لأنّها تمسّ وحدة الداخل الأمريكي، ليس في مجاله الاقتصادي، إنّما في نطاق حريات الأفراد وفرض الهجرة وقوانين التعدّد، وهي الأسس التي جعلتها «أرض الأحلام».
الشعب الأمريكي اليوم في امتحان مع قيمه وحرياته وشعاراته وأمنه ووحدته، لقد بات تحوّل الخطر الخارجي إلى الداخل، وهي فرصة تاريخيّة للمؤسسات السياسيّة والمدنيّة لمراجعة تفريط العلمانيّة السياسيّة في إغلاق ثغرات دستوريّة وانتخابيّة، يمكن أن يتسرّب منها خطاب شعبويّ، (قد) يحمل «مشروعا عنصريا فعليا» (قد تفرضه حكومة ترمب)، وتدعم اليمين الديني، تأسيساً لعودة عنصريّة عرقيّة ودينيّة لم تفارق شبح الأقليات في أمريكا، ضمن إعادة تعريفات فعليّة تمسّ مفهوم المواطنة الأمريكيّة والهجرة لها.
بدأ ترمب أوّل أيام سلطته بقرارات ضدّ المكسيكين والمهاجرين والمسلمين والأقليات؛ وأمام مشروع قد يصدره لتسجيل المسلمين في أمريكا، وحصر المهاجرين غير النظامين، انتشرت حملات المشاهير والمؤسسات الأهليّة في الإعلان إلى (سجّل أنا مسلم)، كما صرّحت مادلين أولبريت: «لقد تربيّت كاثوليكاً, واكتشفت لاحقاً أنّ عائلتي كانت يهوديّة، وأنا مستعدّة الآن لتسجيل اسمي كمسلمة».
معركة القيم الأمريكيّة بدأت بين أمريكا الكابوي وأمريكا الأحلام، وفي المقابل، بدأ العصيان الشعبي ووصل سريعاً إلى عصيان سياسي تمثّل في تعهّدات عمدة نيويورك بمعارضة قرارات حكومة واشنطن.
هذه هي أمريكا/الحلم التي نتحالف معها أيضاً، والموقف الآن أكثر من أيّ وقت مضى، يستوجب زيادة التحالف مع الشعب الأمريكي، تأكيداً، أنّه يدافع عن قوانين وقيم ومفاهيم تهمّ العالم أجمع، وهو بانتصاره في هذه المعركة يغلق باباً كبيراً في وجه تفاقم الإرهاب السببي، وتجفيف منابع الانفجار العالمي المسلّح.