د.عبدالله الغذامي
عنواني هذا هو بيت من قصيدة للسياب:
(تهتف بي أن أكتب القصيدة الجديدة
فأكتب....
ما في دمي وأشطب
حتى تلين الفكرة العنيدة)
وهذا وصف لحالة أي كاتب أو خطيب أو باحث، حيث تحاصره أفكاره التي تتصارع في رأسه، ولكثرتها وتشابكها فإن الذهن يرتبك معها ومع طريقة إنزالها وإخراجها، كما ترتبك جموع الناس حين تقرر الخروج فجأة من مكان محصور وتحاول عبور بوابة المنفذ، وقد يحدث تزاحم حاد يقع فيه ضحايا، وكذا يحدث للذهن البشري حين يستدعي مخزونه ويهتف به كي يخرج الكلمات لتتحول إلى جمل مكتوبة، وستقع ضحايا كثر في هذا التزاحم وسط اختياراتك الذوقية والعقلانية فتستبعد كلمة وتحاول جلب غيرها وتشطب هذه وتعود إلى تلك، وتدخل في معركة وجدانية وذهنية مع مخزون رأسك وهو يتحول إلى لسانك أو إلى قلمك (إصبعك في حالة الشاشات اليوم)، ولن تلين الفكرة العنيدة إلا بعد أن تشرع الكلمات في التساقط، ومع الكلمة الأولى الناجحة ستلين الجملة الأولى، وبعده السطر الأول، وحينها سيسلس الأمر ويلين الجهد، ومعه تلين الفكرة العنيدة حسب وصف السياب لها، وهي الحالة التي ذكرها الفرزدق بقوله: لخلع ضرس أهون علي من قول بيت شعر، وكذا يروى أن البحتري مرت عليه أربعون سنة ليكمل شطر بيت من الشعر، لأن فكرته العنيدة في ذلك الشطر تحديداً تمنّعت عن الولادة حتى القيصرية منها، ومثله جرير الذي كان يصاب بلوثة تلعب بجسده حتى كان يتمرغ على الأرض ليجر إليه ألفاظه العنيدة ويسكبها في قصيدة، وهي حال يشترك فيها كل مشتغل على الكلمات، وفيه صارت قصة زياد بن أبي سفيان (زياد الأول) حين ارتج عليه في أول خطبة له في الشام حيث تولاه قبل أخيه معاوية، وحين أعجزته الكلمات عوّض عجزه بكلمته المشهورة: أنتم إلى أمير فعال أحوج منكم إلى أمير قوال. والكلمة في النهاية فرس جامح لا تسلم شكيمتها إلا لفارسها الذي يجيد ترويضها.