الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
ينبذ الإسلام كل الصفات الذميمة والوضيعة ومن ذلك السخرية والاستهزاء بالآخرين. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أمنوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ}. والسخرية والاستهزاء فاكهة المجالس، ووسائل التواصل المسمومة، وعدها البعض إرهابا فكريا ذات سلبية كريهة وطعنة في خاصرة الدين.
ولا شك أنّ السخرية والاستهزاء وجهان لعملة واحدة في ظلم قلوب البشر وإثارة للضغائن، ووسيلة لقول الممنوع في هدم القيم، وهذه السلوكيات المشينة ترفضها الشريعة الإسلامية والأعراف والتقاليد باعتبارها إيذاء سافرا وسلاح العاجز عن مقارعة الحجة بالحجة.
«الجزيرة» ناقشت تلك القضية مع عدد من ذوي الاختصاص وكانت الحصيلة التالية:
أسلحة العاجز
يقول د. محمد بن عبد الله السحيم عضو هيئة التدريس بجامعة الملك سعود بالرياض إن بعضاً ممن شَرُف بهذا الدين يلجأ إلى السخرية بالإسلام وأهله، وظنوا أن السخرية ستطمس حقاً، وترد مؤمناً، وتزعزع موقناً، وتفرق مجتمعاً.. ولم يعلموا أن سخريتهم بالمؤمنين تورثهم منافرة لمن خالفهم، وتزيدهم إيماناً وصلابة وتمسكاً بدينهم، متمثلين قوله تعالى: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} (22) سورة الأحزاب.
والسخرية هي ثالث أسلحة العاجز التي هي: الغيبة والنميمة والسخرية، ولا يلجأ إليها القوي ابتداء، ولكن يعمد إليها لمقابلة سخرية مماثلة، والسخرية بالدين وبشعائره الظاهرة أو الباطنة، وبمظاهره الظاهرة على المؤمنين تورد الساخر موارد العطب، لأنّها تخرجه من دائرة الإسلام وهو لا يشعر، قال تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ استهْزِؤُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ} (64) سورة التوبة، فهذا الحكم بكفرهم لأنهم سخروا من بعض الصحابة بسبب صفة خلقية، كالإكثار من الأكل، وعدم الشجاعة - وقد كذبوا عليهم - وقد عدَّ الله هذه السخرية استهزاءً به وبآياته وبرسوله، فما بالك بمن يسخر من شعائر الله: كالمحافظة على الصلاة، والتزام الحجاب، وتوفير اللحى، وتقصير الثياب.
هذا حكمهم في الدنيا فما مآلهم في الدار الآخرة؟ إنهم في مكان بئيس وعذاب أليم، قال جل ثناؤه: {وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} (68) سورة التوبة، فسخرية هؤلاء بالمؤمنين، وذلك كما أخبر الله عن ذلك الموقف بقوله سبحانه: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ أمنواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (المطففين: 34 - 36)، ويرفع الله في ذلك اليوم شأن المؤمنين، ويجعل ذلك الساخر المغتر بنفسه في مكان سحيق قال تعالى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ أمنواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ } (212) سورة البقرة، بل إن من مقاصد هذا الدين أن يشفي صدور المؤمنين من الذين كانوا يسخرون منهم ويؤذونهم، قال ذلك الشيخ السعدي - رحمه الله - عند تفسير قوله تعالى: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} (15) سورة التوبة} (التوبة: 14 - 15).
ويخاطب السحيم المسلمين قائلاً: انظروا إلى هذا النعيم النفسي الذي يمتن الله به على المؤمنين في الجنة في هذا المشهد المذكور في قوله تعالى: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} (الصافات: 50 - 57)، ولتكن هذه المشاهد الأخروية دافعاً للمزيد من رسوخ الإيمان واليقين، وليكن لسان حال المؤمنين في مثل هذه المواطن {فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ}، ولتكن آيات الوعيد زاجراً لمن تسول له نفسه السخرية بدين الله، وليعلموا أن الساخرين بالدين هم الخاسرون، بل هم أعظم الناس خسارة، حيث خسروا أنفسهم، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (15) سورة الزمر، وإذا خسر الإِنسان نفسه فماذا يبقى له؟! لأن الخاسرين كثير، فمن الناس من يخسر ماله، ومنهم من يخسر منصبه، ومنهم من يخسر مكانته الاجتماعية، ومنهم من يخسر ولده، ومنهم من يخسر بلده، ومنهم من يخسر دينه، وهو أعظم خسارة، لأنه خسارة للنفس في الحياة الدنيا، وفي الآخرة.
العواقب وخيمة
ويشير د. عبد العزيز بن حمود المشيقح عضو هيئة التدريس بقسم الاجتماع والخدمة الاجتماعية بجامعة القصيم الى أنّه ينبغي لمجتمعنا أن يربأ بنفسه عن هذه الصفات، فالسخرية بالناس تعد من سمات الكفار والمنافقين، وقد نُهينا عن التشبه بهم، قال تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، والسخرية تميت القلب وتورثه الغفلة، حتى إذا كان يوم القيامة ندم الساخر وتحسر على فعله، قال تعالى: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} (56) سورة الزمر.
ولكن بكل أسف نجد فاكهة مجالس الناس هو الاستهزاء والسخرية بفلان وعلان وفلانة وعلانة، ويتعاظم ذلك في مجالس النساء ونسين حديث حسبك من صفية انها قصيرة.
فالسخرية من الناس عاقبتها وخيمة في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ أمنوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقَلَبُواْ إلى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ}، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا}.
والساخر بعيد عن ربه قريب من الشيطان، قال تعالى عن الكفار: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا أمنا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حتى أنسوكم ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ}. قال القرطبي: يستفاد من هذا التحذير من السخرية والاستهزاء بالضعفاء والمساكين، والاحتقار لهم والإزراء عليهم، والاشتغال بهم فيما لا يعني، وأن ذلك مبعد من الله - عز وجل -. ومما تقَّدم، يتبيّن لنا أن السخرية بالناس ذنب عظيم، منافٍ للدّين والمروءة والأدب.
الألقاب السيئة
يضيف د. المشيقح أن الاستهزاء والسخرية يتعاظمان حينما يوجهان للعلماء والمشايخ، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وغيرهم من أهل الصلاح والخير، ولمزهم بالألقاب السيئة، وتأليف النكت عليهم، بل قد نص بعض أهل العلم على أن الساخر من العلماء أو الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر إذا كان يسخر منهم لدينهم لا لذاتهم، فإنَّ هذا من الكفر المخرج من دائرة الإسلام، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ}.
كما أن السخرية بالعمالة، والفقراء وضعفة الناس، واحتقارهم له عواقب وخيمة. روى البخاري في صحيحه من حديث سهل - رضي الله عنه - قال: مرَّ رجل على رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - فقال: ما تقولون في هذا؟ قالوا: حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يُشفع، وإن قال أن يُستمع، قال: ثم سكت، فمرَّ رجل من فقراء المسلمين، فقال: ما تقولون في هذا؟ قالوا: حري إن خطب ألا ينكح، وإن شفع ألا يشفع، وإن قال ألا يُستمع، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - : هذا خير من ملء الأرض مثل هذا، وما يدري هذا الساخر لعل الذي سخر منه خير وأتقى لله منه!، قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}.
صراعات مجتمعية
وينبّه د. المشيقح إلى أنّه يورث العداوة والشحناء والتفكك الأسري والمجتمعي خاصة الاستهزاء والاحتقار باللون أو العرق أو المقارنة بالغنى والفقر والمسكن والملبس، بل ربما يؤدي ذلك إلى تحزب المجتمع وتفككه وخلق صراعات مجتمعية تتحول لقضايا أمنية وسياسية كما يحدث في كثير من بلدان العالم التي تكثر فيها الصراعات الطبقية، بينما أثره على الفرد خلق الانعزالية والنكوص والإحباط وقتل الهمم، فينشأ لدينا أفراد يحملون الكراهية والحقد ضد مجتمعهم وبيئتهم، بل ربما يؤول لأمراض نفسية وعقلية بسبب تزايد الاستهزاء والاحتقار. مشيراً إلى أنّ علاج ذلك يكون التخويف بالله ووعيده وسياق ما ذكرناه من آيات وأحاديث تنهى عن هذه العادة السيئة، والاستفادة من برامج التواصل الاجتماعي في تعزيز مكارم الأخلاق ونشرها وذم العادات التي تسيء للآخر، وتشريع النظم والقوانين التي تكفل حقوق من تلقى الإساءة وذلك بالعقوبات الصارمة، ونشر ثقافة التآخي ونبذ التعنصر والإساءة للآخر في المدارس والجامعات، وأن تقوم بعض المؤسسات الاجتماعية والتعليمية بتبني البرامج الهادفة التي تدعو إلى تماسك المجتمع ونبذ العبارات التي تدعوا لتفككه وتسيء للآخر، كما أنّه يتطلّب من المؤسسات والبنوك تبنّي دعم هذه البرامج مادياً من باب المسؤولية الاجتماعية لخلق روح التسامح ونبذ كل ما يدعو للاستهزاء واحتقار الآخر وتناميه.
ظاهرة خطيرة
يؤكّد الاستاذ / مازن حسن خليل مدير عام تقنية المعلومات لمجموعة العربية للعود انتشار ظاهرة السخرية من الآخرين مؤخراً في وسائل التواصل الاجتماعي، ومن بعض العلاقات أو العادات الاجتماعية بل تعدت ذلك إلى السخرية بالمعتقدات الدينية.
وقد نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - عن العنصرية حيث قال: (دعوها فإنّها نتنة)، وعدّ هذه الظاهرة خطيرة حيث إنها تؤثّر سلباً على المجتمع وترابطه، وقد يظن البعض أنها للفكاهة فقط ولكن لو تمعنا قليلاً لوجدنا أنها ناتجة عن موقف أو مشكلة ما يواجهها صاحب الموقف فيلجأ إلى الدعابة أو السخرية.. وبدلاً من التفكير في طرق حلها بشكل حضاري سليم لإيصال الرسالة والنصح وحل المشكلة يعتمد أسهل الطرق وهي السخرية، مع الأسف لم ولن تكون طريقة مثلى لإيصال الرسالة حيث إنه بهذا الأسلوب سيزيد الطين بِلّة، بل من الممكن أن تؤثر سلباً على المجتمع وتؤدي إلى الانزلاق في مستنقع العنصرية المقيت ويتراجع بذلك عن تعاليم دينه وأخلاقه ويستهتر بعلاقاته ويفقد غيرته على قيمه وخصوصياته.
وقد يلجأ الإِنسان لهذا الأسلوب لأنه ربما لم يجد الأسلوب المناسب للتعبير عن مشكلته أو إيجاد حلٍ لها إلا عن طريق السخرية بسبب قلة وعيه أو لأنه لا يملك القدرة للتقصي عن الحلول فيلجأ إلى النقد الهدام، وبذلك يبتعد كل البعد عن حل المشكلة المطروحة ويصبح للموضوع طابع فكاهي أكثر من انها مشكلة ويجب إيجاد حل لها، فتفقد قيمتها لدى المتلقي ولا يلقي لها بالاً بعد ذلك.
للوقاية من هذا الأمر المتفشي هو تأسيس أبنائنا وبناتنا على حرمة السخرية {لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ}، وتنبيه كل من يقع في هذا الأمر على نتائج ذلك من نشر الفتنة والأحقاد بين الناس.. وما سيؤدي من تأزم وتفكك للعلاقات فيما بينهم.
وأما علاجها فيكون عن طريق توعية المجتمع من قبل المفكرين والإعلاميين والعمل المستمر على تنبيههم عن الضرر الناتج لما يقومون به ووضع حد لهذه الفئة البسيطة من المجتمع بالقانون إذا لم يتقبلوا الأمر بالنصح والإرشاد.