اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
المملكة خطت خطوات واسعة وقطعت شوطاً بعيداً على طريق تحديث وتطوير عناصر قوتها الوطنية، وعلى رأسها القوات العسكرية والأمنية إلى المستوى الذي بات يؤهلها لإثبات وجودها وتأكيد حضورها في المعادلة الأمنية بالشكل الذي يؤمن لها حداً مقبولاً ومعدلاً معقولاً على صعيد أمن التهديد في مستواه التقليدي وبعده الوطني، إلا أن جوار المملكة الملتهب وخطورة التهديدات وتعدد مصادرها، مضافاً إلى ذلك طبيعة الصراع القادم واتساع مسرحه والشكل المؤدلج له، عندما توضع هذه العوامل تحت المجهر، وتجري المقارنة بينها وبين تعداد القوات العسكرية النظامية تبرز أمام المقارن أهمية التجنيد الإلزامي، وذلك قياساً على سعة مساحة المملكة وطول حدودها البرية والبحرية واحتضانها للحرمين الشريفين وضخامة مسؤولياتها الوطنية والقومية والدينية، انطلاقاً من مركزها الديني ووزنها السياسي وثقلها الاقتصادي وموقعها الاستراتيجي ومكانتها القيادية في محيطها العربي والإسلامي، كل هذه المعطيات تفرض عليها الإعداد والاستعداد والجهوزية الشاملة التي لا تقبل المساومة ولا تحتمل أنصاف الحلول ولا مكان معها لإهدار الوقت والمماطلة والتسويف أو الاعتماد على غيره.
وأياً كانت التكاليف الاقتصادية للخدمة العسكرية الإلزامية فإن عائداتها لا تقدربثمن إذا ما جد الجد واستدعت الحاجة، حيث إن تكيِّف المجتمع مع هذه الخدمة وتأقلم أفراده معها، يختصر الوقت والمسافة بفضل الاستجابة السريعة لمواجهة أي طارئ عندما تحتاج القوات العسكرية والأمنية مساندة من خارج ملاكها وحدود إمكاناتها في أي منطقة من مناطق المملكة المترامية الأطراف.
وطبيعة جوار المملكة وحدودها وشكل التهديد الوافد من خارج هذه الحدود في بعده العسكري كل هذه الاعتبارات تشير إلى أن التهديد قد يكون على هيئات مختلفة وأشكال متعددة من الصراع المسلح، بما في ذلك على هيئة مليشيات طائفية واجتياحات بشرية عبر الحدود، يختفي داخلها عناصر إرهابية في الوقت الذي يفترض أن تكون فيه القوات النظامية بشقيها الأمني والعسكري مشغولة في مهام أمنية وقتالية، مما يتطلب وجود قوة تحت الطلب على درجة من الجهوزية للتصدي لهذا الخطر والتعامل معه سواء بصورة مستقلة أو ريثما تتدخل القوات العسكرية والأمنية لاحقا.
وإذا ما أضفنا إلى هذه المعضلة معضلة أخرى أشد منها تعقيداً، ولا تقل عنها خطورة، وقد تتداعى إحداها للأخرى في الأهداف والتوقيت، وهي معضلة العمالة الوافدة التي يتجاوز تعدادها ثلث سكان المملكة، فإن التجنيد الإلزامي هو المصدر الذي يوفر قوة رديفة تستطيع مباشرة مهامها ضد أية ممارسات محظورة تمارسها هذه العمالة في الزمان والمكان المحددين بأسرع وقت وأقل تكلفة.
ومردود التجنيد الإلزامي على صعيد الأمن الوطني في بعده العسكري، يوازيه مردود وطني آخر على صعيد الأمن الاجتماعي، فالجهوزية لمواجهة أي تهديد مهما كان مصدره وحجم خطره، يواكبها إصلاح وتقويم للسلوك المجتمعي وتكريس للسلم الأهلي، إذ إن الخدمة العسكرية الإلزامية في الوقت الذي تنمي في الشباب الحس الأمني والوعي الاجتماعي والانتماء الوطني لتمكينهم من تحقيق أهداف هذه الخدمة وتأدية الدور المطلوب منهم في سبيل حماية الدين والدفاع عن الوطن والمحافظة على أمنه واستقراره، فإنها تساهم مساهمة فعالة في علاج الكثير من حالات الفساد والأمراض الاجتماعية التي إذا ما تمت معالجتها انعكس ذلك على الأمن الاجتماعي من خلال ما يترتب على هذه المعالجة من درء المفاسد ونبذ الممارسات الخاطئة والعادات الذميمة واستبدالها بصفات حميدة وعادات سليمة.
وعلى هذا الأساس فإن العلوم العسكرية والفضائل التربوية والقيم المهنية والثقافة الوطنية التي يتلقاها الملتحقون بالخدمة العسكرية الإلزامية كفيلة بأن تزرع فيهم حب الوطن وصدق الانتماء إليه والتضحية في سبيله علاوة على تنمية الشعور بالمسؤولية والانضباط وروح الفريق، وكذلك قوة التحمل والطاعة والخضوع للواجب، كما أن اكتساب قيم الجندية ومبادئها بالنسبة لهؤلاء في الوقت الذي يحثهم على التحلي بمكارم الأخلاق والارتقاء بالنفس إلى المستوى الذي يتطلع إليه أصحاب الهمم العالية والنفوس الكريمة فإنه يدفهم إلى السمو بهذه النفس عن أية ممارسات دونية.
ودعوة مفتى عام المملكة الموجهة إلى القيادة السياسية بتبنّي هذه الخدمة لم يطلقها جزافاً، ولا من فراغ، وإنما لهذه الدعوة مغزاها الديني والوطني وهو مغزى يرمي إلى الاستجابة لما تنص عليه أوامر دينية وتدعو إليه ضرورات وطنية فرضها واقع الحال القائم والتحسب لما هو قادم.