د.محمد بن عبدالرحمن البشر
في عصر تم فيه طرد ما بقي من مسلمين في إسبانيا، كانت تطوان وسلا المغربتان شبه مستقلتين، وكان يحكم تطوان المقدم عبدالله بن النفيس، وقد كان والده حاكمًا لتطوان، وبعد وفاته تقاسم الحكم بعده أبناؤه، منهم عيسى وعبدالله وأخوان آخران. وقد قُتل عيسى وأخواه الآخران من قِبل مجموعة من أهل تطوان الأندلسيين، وجُلّهم مورسكيون، وعلى رأسهم أحمد أبو علي، لكن عبدالله بن أبي العباس تمكَّن من الهرب، وجمع قواه، وعاد إلى تطوان ليحكمها بعد القضاء على الثائرين عليه، وذلك في سنة قريبة من عام 1038 هجرية -1629 ميلادية.
كانت تلك الفترة من زمن فترة صعود وتنامي القوة الإنجليزية، وكان أبناء تلك البلاد جُلهم من الأندلسيين المطرودين، وما زال الأمل يراودهم للعودة إلى ديارهم؛ فكان تواصلهم مع الإنجليز يعطي بارقة أمل لتلك العودة المنشودة، في وقت كان التنافس فيه بين الإسبان والإنجليز قائمًا، وكان الملك الإسباني آنذاك منغمسًا في ملذاته، وكان التواصل عبر المبعوثين قائمًا بين الإنجليز وتلك الإمارات الصغيرة، ومنها رسالة من عبدالله بن النفيس إلى ملك إنجلترا شارل الأول، أرسلها مع أحد أعوانه مع بعض الهدايا، وقد أجابه ملك إنجلترا شارل الأول برسالة، بعث بها أحد أعوانه إلى المقدم عبدالله بن النفيس، وهي تدل على شغف ملوك الإنجليز بالصقور والخيل العربية. وقد أورد محمد داوود في كتابه تاريخ تطوان ونقل رسالة من شارل الأول إلى عبدالله بن النفيس، استحسنتُ إيرادها لإعطاء القارئ الكريم نموذجًا لأسلوب التعامل والتواصل والكتابة، وأنواع الهدايا؛ لتضيف شيئًا إلى معرفته. تقول الرسالة:
«من شارل الذي هو بفضل الله ملك بريطانيا العظمى وفرنسا وإيرلندا وحامي العقيدة المسيحية.. إلى السيد الرفيع العظيم سيدي عبدالله بن النفيس حاكم تطوان. أحييكم.. وبعد: فقد تسلمنا رسالتكم من خادمنا جيلس بن مع طائفة من الصقور أرسلتها إلينا معه، وقد أنفذناه إليكم مرة أخرى مع تشكراتنا عليها آملين أن تمنحوه إذنكم وسماحكم له بأن ينقل من هناك إلينا صقورًا أخرى وأفراسًا من أحسن الأصول، وأجود الأنواع هناك. وباسمنا فإنه سيفضي إليكم بما نرجو أن تكونوا على استعداد لتمكنوه منه تحقيقًا لطلبنا. وحيث إن خادمنا المذكور قد بيّن لنا العلاقة الحسنة والمعاملة التجارية التي يجدها رعايانا في مينائكم هناك فنحن لأجل ذلك، ولما أبديتموه من تقدير نحونا، نبعث إليكم بتشكراتنا الملوكية راغبين في استمرار وتنمية تلك العلاقات الطيبة التي سبق أن أُنشئت معكم، مؤكدين لكم أن كل ما تأمرون به من بضاعة مهما تكن في أي ناحية من نواحي مملكتنا، فهي في خدمتكم. وأخيرًا، قد أصدرنا الأوامر إلى تجارنا بأن يترددوا على موانئكم المذكورة ومدينتكم ببضائعهم، وأن يتاجروا هناك ما داموا يجدون أسواقًا ملائمة لتجارتهم، ومعاملة حسنة لأشخاصهم مما ليس لنا فيه أدنى شك. وعلى كلٍّ، فنحن أيضًا قد تركنا الكتابة إليكم، وبعثنا خادمنا المذكور جليس بن ليعقد معكم باسمنا الاتفاق، وقد مكناه من تلك السلطة؛ فنأمل منكم أن تعتمدوا عليه تمام الاعتماد، وأن تضعوا فيه ثقتكم.
صدر تحت خاتمنا وإمضاء يدنا في بلاطنا الشريف في اليوم: من أكتوبر من السنة الخامسة عشرة من ملكنا، يعني سنة 1629».
(وأوائل أكتوبر سنة 1629 توافق أواسط صفر عام 1039).
في الحقيقة، إن القرصنة في تلك الجهات من قِبل الإنجليز والمورسكيين وبعض المغاربة، سواء من تطوان، وسلا وأصيلا، أو غيرها من المدن، لم تقتصر على سفن الإسبان العسكرية والتجارية، بل تجاوز الأمر ذلك؛ فكان هناك قرصنة من قِبل الإنجليز للسفن الأندلسية، المورسكية منها وغير المورسكية، وغير ذلك من السفن، رغم أن المعاهدات قد وثقت من قِبل الإنجليز، وتعهدوا بالالتزام بها. وقد أبدي سكان تطوان وسلا وغيرهم امتعاضهم من تلك التصرفات من قِبل القراصنة الإنجليز، وأظهروا ذلك لممثل إنجلترا هناك، الذي كان يحرص على استمرار التعاون بين الطرفين في سبيل الضغط على الجانب الإسباني، لكن دون تحقيق أمل الأندلسيين بالعودة. وقد كتب الممثل الإنجليزي لحكومته رسالة، يشرح فيها تلك الممارسات الإنجليزية، وموقف الأندلسيين منها، فقال: «في خلال عشرة أيام كنا على شاطئ أرض البربر، وكانت الهبة نفسها من الريح، وأنا متأكد أنه الله نفسه؛ إذ كانت الرحلة من قبل ومن المكان نفسه. وقد هبت الريح بنا سبعة أيام وثماني ليال، وكانت الرحلة الأخرى من قبل قد استغرقت تسعة أيام من downes إلى فم المضيق من حيث اتجهنا إلى تطوان...» إلى أن قال:
«توسلت إلى الحكام لينادوا على أصحاب الجمرك، وقد فعلوا مدعين أن كثيرًا من الأخطاء قد ارتُكبت في حقهم من جانب قرصاننا الإنجليز في البحر منذ أول معاهدة، وقد ألقوا برجالهم على ظهر السفينة وسلبوهم بضائعهم ومقدراتهم. فقلت إن ذلك كان من غير علم جلالتكم ومخالفًا لأرادتكم ومشيئتكم. وعلى ذلك، فلأجل منع كل هذه المخالفات من الآن فصاعدًا، فإن جلالتكم ستنشرون إعلانًا صارمًا، قد أطلعتهم عليه، والغرامات في هذا الصدد. ولأني قد أخذت أعظم قصاص، وخاطرت بنفسي أولاً بواسطة سفري عن طريق البر من تطوان إلى سلا، وقبل سافرت بحرًا مرتين لآتي إليهم، فقد كانوا مسرورين ليعلنوا لي شكاواهم السابقة حينئذ فوعدتهم بأنه فيما بعد لن ترتكب في حقهم أيضًا أية مخالفات...» إلى أن قال:
«وفي خلال بضعة أيام تسلمت رسالة من سيدي محمد العياشي بواسطة رسول أرسله إلي خصيصًا، وقال: إن الولي راغب جدًّا في أن يتكلم معي، وكذلك مقدم تطوان (عبد الله بن أحمد بن النفيس)، وكذلك تسلمت رسالة أخرى من تاجر إنجليزي بتطوان في هذا الغرض شارحًا لي كيف أنه كثيرًا يعتمد على الولي لتخليص أصيلا بعد تحطيم أسطوله الذي ذكر أنه عمل وفقًا لاقتراحاتي أو لأوامر أرسلت إليه من هنا».
هاتان رسالتان تم تبادلهما بين الجهتين، تُظهران أسلوب التواصل وغاياته. والله ولي التوفيق.