د. زايد الحارثي
استكمالاً للحديث السابق عن منظومة التعليم في ماليزيا من حيث مراحل التعليم وأنواعه والجهات المشرفة عليه، وكذلك نوعية البرامج والمناهج سواء كان ذلك في التعليم العام أو التعليم العالي ما يجعل القارئ الواعي والمتابع الجيد يتساءل: ما الذي جعل التعليم في ماليزيا يؤهل للاستثمار وكيف يعبر عن هذا الاستثمار؟
الإجابة عن هذا السؤال بعد التأكيد أن الاستثمار في التعليم في ماليزيا لم يتحقق إلا بكفاءة وجودة عالية تصنف ضمن أعلى معايير التربوية والتعليمية في الحداثة، واستطاعت أن تخلق بيئة تعليمية آمنة وصلت لأجود المخرجات ما يفتح لنا المجال للحديث عن كيفية الاستفادة من هذه التجربة الفريدة ونحن نسعى مع قيادتنا الرشيدة والحكيمة التي يقود دفتها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود - حفظه الله - لتحقيق رؤية سعودية طموحة بحلول 2030 .
وهنا لا بد من وقفات تذكيرية وهو أن المجتمع الماليزي متعدد الأعراق والتركيبة المجتمعية تشكل ثلاث حضارات وهي الملايو والصينيين والهنود ويعيشون في تناغم وتجانس معتزين بهويتهم الوطنية الماليزية والولاء لوطنه وأرضه، وهذا بلا شك من دعائم النجاح في التجربة الماليزية في التعليم، ثانياً أن الحكومة الماليزية لا تدخر جهداً في تطوير التعليم وتخصيص ميزانية مع كل سنة مالية تعد كبيرة مقارنة بحجم اقتصادها، ويتجلى ذلك بوضوح في الدعم السخي للبحث العلمي وإطلاق البرامج التقنية وتشجيع ثقافة الإبداع وتبني الاختراعات ومشروعات البنى التحتية والمصانع وسوق العمل بكافة أبعاده ومجالاته، وثالث ذلك أننا نرى السياسات والأنظمة المتبعة في تنفيذ الخطط والرؤى والإشراف العالي والمراقبة والتقييم وتدارك أي منعطف قد يؤدي إلى عدم الوصول للهدف في الزمان والوقت المعين.
ومن خلال اطلاعنا واللقاء بصناع التعليم وأرباب التربية ومسؤولي التعليم العالي الماليزيين في المناسبات المختلفة والاجتماعات المتكررة التي نعقدها في الملحقية الثقافية السعودية بكوالالمبور والزيارات المستمرة للمؤسسات التعليمية الماليزية للاطلاع عن قرب على هذه التجربة، نستطيع القول انها خطط توضع بشكل مدروس وواقعي ومنطقي وقابل للتنفيذ ويتوازى مع هذه الخطط والرؤى برامج ومشروعات للمتابعة والتقييم، أما الركيزة الرابعة وهي الانفتاح على التجارب السابقة في الدول المتقدمة والمجاورة والقريبة منها كتجربة اليابان وسنغافورة والصين وكوريا الجنوبية واستراليا إلى الدول الغربية كالولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وكندا، حيث تبتعث ماليزيا وعلى مدى أربعة عقود ماضية الآلاف من طلابها إلى تلك الدول والذي عادوا بعد تسلحهم بالعلم والمعرفة ليساهموا في نهضة بلادهم ويشاركوا بفعالية وبريادة في نقل خبراتهم وتجاربهم.
بالإضافة إلى ما ذكرناه من ركائز مهمة إلا أنه توجد ركيزة هي بمثابة العمود الفقري في نجاح التعليم في ماليزيا ألا وهي الخصوصية الدينية التي تفردت بها ماليزيا في تجربتها النهضوية بصفة عامة وفي كافة مجالاتها، ونقصد بذلك تمسك هذه الدولة واحترامها للقيم والمبادئ الإسلامية في شكلها ومضمونها المتسامح الوسطي المعتدل الذي لا يتعارض مع التقدم والتطور والانفتاح، بل انعتاق من انغلاق الجهل، والانطلاق إلى رحاب العلم والمعرفة.
هذه الميزة أعطت ماليزيا منهج حياة متميزاً دفعها فتألقت في نجاحها المادي والتكنولوجي لمستوى عال جداً محافظة في الوقت ذاته على أصالتها وعاداتها وتقاليدها.
كما أن ماليزيا لم تهمل بناء القدرات الشابة بل عملت على الإشراف على العملية التعليمية وتطوير المهارات واستطاعت أن تصقل مواهب أبنائها من خلال معاهد تقنية وتدريبية ذات مناهج ومقررات ذات جودة والتعرف على النظريات العلمية وأفضل الممارسات على المستوى الدولي؛ ما انتج كفاءات ومهارات ومستوى احترافي عاليا في مختلف المجالات يترجم محور الحديث عن تجربة التعليم الماليزية والاستثمار فيها.