د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
(1)
** تروي المساءاتُ ما لا ترويه الصباحات، وترى أعينٌ ما لا يراه سواها، ونوشك أن نتهم بعض القلوب بتكوينها الصفيحي البارد، وبعضَ الألسنة باجتلابها من سوق الخرداوات، وبعض البشر بانتفائهم عن ذوي العقول والمشاعر.
** زالت أقنعة الرؤوس فبدت داخلها فؤوسٌ صدئةٌ تسخر من المرض وتشمت بالموت وتتاجر بأفئدة المكلومين والمتعبين والمهمومين؛ أفنحن أو أهلونا نتاج تربةٍ رديئةٍ وتربيةٍ مأزومة؟ أم أن مساحات التمرد وانحناءات التيه جعلت زوايا الحياة قاتمةً فأظلمت معها دواخلُ بعض البشر وافتقدوا موازين الفروسية والرقي؟.
(2)
** في أول عامين لنا بكلية العلوم الاجتماعية «جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية» فقدنا اثنين من كبار أساتذتنا في «التأريخ» و»الجغرافيا»؛ محمود عبدالوهاب ومحمد سيد نصر - رحمهما الله -،ويذكر أنه حزن عليهما كثيرًا، وفُجع بالأول أكثر حتى قال له أحد أصدقائه: ما قصتك؟ هل هذه أول مرة تعايش فيها الموت؟.
** أعاده الاستفهام إلى وعيه؛ فلا يذكر قبلها سوى وفاة جده «علي التركي العَمْر» - جمعنا الله به في عليين -، وكان طفلًا لم يستغرقه الحزن كما يستغرق الكبار؛ فكان يسيرًا إلهاؤُه وإنساؤُه، لكن الحزن ليس يومًا يمضي فينقضي أو لحظةً تومض ثم تنقبض.
(3)
** حين زار الدكتور سلمان العودة لتعزيته في زوجه وابنه - غفر الله لهما وجبر كسره - قال الشيخ: هل تذكر لقاءنا في «حويلان»؟ ولم يزد هو ولم يعقب صاحبكم؛ فالرسالة « البرقية - المشبهة لكلمته المؤثرة المعبرة: «لا أستحقك» - مليئةٌ بمعانٍ ومعاناةٍ صنعها الفقدُ، وأشار الشيخ فيها إلى أخ كريمٍ فقد زوجَه وعددًا من أولاده في حادث حريق؛ فكذا نواسِي يومًا ونواسَى أيامًا، وبذا يتخلق الحبُّ كما عبر عنه الشيخ الدكتور عبدالوهاب الطريري في مجلس عزاء أبي معاذ - حفظهما الله - إذ كان يردد وهو يرى السعودي والبحريني واليمني والقطري والعالم والمتعلم والكبير والصغير وغيرهم تحت مظلة الألم: أرأيتم كيف يصنع الجسد الواحد حين تتداعى له سائر الأعضاء؟.
(4)
** تاجر بعضُ المسيسين بدماء مستضعفي فلسطين والشام والعراق واليمن ودافعوا عن الجلادين انتصارًا لمواقعهم، وصار الموتُ لعبةً رخيصةً لهم غير معنيين باليتامى والثكالى والمشردين؛ فأي أفئدةٍ لهم وأي أذهانٍ تحركهم؟.
** لم نعد نرى سوى الدماء والأشلاء؛ فهل تكون الكراسي سبب المآسي أم نواتج له؟ أي هل الكرسي يخلق المأساة أم أن هذه تجتذب الأشقياء؟.
** للحروب أثرياؤها وللأزمات مسعِّروها من ذوي التركيباتٍ البدنية والعقلية التي ترى التدمير تعميرًا والشماتة تشميتاً.
(5)
** الحزن لا يجامِل ، والأسى على الفقد لا يشمل كلَّ الراحلين؛ فالمؤذُون لا بكّائين لهم.
(6)
** للموت فصول لا تتم.