يقول الدكتور مصطفى محمود - رحمه الله - في كتابه لغز الموت: «كلٌّ منا يحمل جثته على كتفيه. ليس هناك أغرب من الموت! إنه حادث غريب أن يصبح الشيء لا شيء... فبين الموت والحياة خيط رفيع، وبالموت تكون الحياة وتستمر، وتأخذ شكلها الذي نحسه ونحياه».
ما أصعب أن يقسو المفجوع على نفسه، ويضغط على قلبه؛ ليعبِّر عن أحزانه، ومشاعره، وآهاته، ويذرف دموعه الحرّى السخينة من جديد عن فقده عزيز طالما كحل ناظريه برؤيته، وشنف أذنيه بعذب حديثه ومعسول كلامه، وشاطره الفرح والترح، وعاش معه الألم والأمل حتى امتزجت روحه في روح من فقده! فكم هو مؤلم فقد القريب، وموجع بُعد الحبيب، وقاسٍ تذكره!
قبل عام رحلت من دنيانا الفانية الحاجة أم عادل محمد العلي، في يوم وفاتها داهمني شعور مثلما داهم المتنبي في رثائه لأخت سيف الدولة:
طوى الجزيرة حتى جاءني خبر
فزعت فيه بآمالي إلى الكذب
حتى إذا لم يدع لي صدقه أملاً
شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي
لم تكن أم عادل مجرد ابنة خالتي، أو خالتي كما كنت أطلق عليها منذ طفولتي! بل كانت لي أُماً رؤوما حين درست في الأحساء عام 1409، فكانت تتعاهدني بالرعاية والاهتمام وأوصت أبناءها بمساعدتي في أي وقت، ومعروفها هذا دين في عنقي لن أنساه ما حييت.
عاشت - رحمها الله - أرملة منذ وفاة زوجها عام 1399 إثر حادث أليم، وفي حوزتها ثمانية أبناء أغلبهم تحت سن العاشرة، فنذرت نفسها لرعايتهم وتربيتهم حتى أنستهم يتمهم، فصارت لهم نعم الأم، والأب، والمعلم، والسند. وعاونها في تحمل هذه المسؤولية أكبر أبنائها عادل ويوسف، ووالدها المرحوم عبد الله القرقوش حتى استوت عائلتها على سوقها عائلة يشار إليها بالبنان.
وقد توفق جميع أبنائها في دراستهم وأعمالهم، فتخرج أربعة منهم في الجامعة، وارتقوا جميعهم في تعاملهم مع الناس بأخلاقهم الحسنة، وتواصلهم الاجتماعي مقتدين بها. وقد أحاطوها ببرهم بها إحاطة السوار بالمعصم، فحجت معهم، واعتمرت، وزارت المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وسافرت معهم كذلك مرات عديدة.
عاشت - طيَّب الله ثراها - أُمية تعلمت في مدرسة الحياة في مجالس الحياة المفتوحة، في حضورها المحاضرات الإسلامية، ومشاركتها الناس في أفراحهم وأتراحهم مهما بعدت عليها الشقة، تقطع المسافات الطويلة ولو مشياً غير آبهة بكبر سنها وظروفها الصحية، فتصل الصغير قبل الكبير، والبعيد قبل القريب حتى كانت خير مطبق لحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «حق المسلم على المسلم خمس: رد السلم، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس». وبهذا كانت رائدة في التواصل الاجتماعي، ومن لم تستطع زيارته تصله باتصالها، أو بتوصيل سلامها له.
كانت كريمة لا يغلق بابها، تقابل كل من تلقاه بوجه حسن، وبكلمة طيبة كأن شعارها في الحياة «الكلمة الطيبة صدقة، ومن لانت كلمته وجبت محبته»:
قد مات قوم وما ماتت مكارمهم
وعاش قوم وهم في الناس أموات
وقد أحبها الناس حباً جماً لبياض قلبها، وصفاء نيتها، وتواضعها وتواصلها، فإذا أحب الله عبداً حبّب إليه قلوب عباده:
ولو كان النساء كمن فقدنا
لفضلت النساء على الرجال
عاشت - رحمها الله - متدينة بفطرتها فكانت ورعة، محافظة على أركان دينها، مواظبة على صيام المستحبات، ورجب، وشعبان كاملين، منذ أكثر من ثلاثين سنة على الرغم من إصابتها بأمراض مزمنة.
وقبيل وفاتها بستة أشهر داهمها مرض الموت، فنوِّمت في المستشفى أشهراً، وحين اشتدت آلامها حوِّلت إلى مستشفى الملك فهد التخصصي فلبثت فيه أشهراً أخرى فقدت فيها القدرة على الكلام، وخدمة نفسها بنفسها. حتى أسلمت الروح إلى بارئها يوم الخميس 23-5-1437، فشيّعها إلى مثواها الأخير جموع غفيرة حتى خُيِّل إلينا أننا نشيع مسؤولاً مشهوراً، أو شيخاً بالعلم مذكوراً:
ولا من في جنازتها تِجارٌ
يكون وداعها نفض النعال
آه ما أصعب أن تحمل نعش من تحب ترفق به:
يا حامل النعش رفقاً أنت لا تدري
امكث هنا لحظةً بالنعش لا تجري
لو تعلمون نسجتم حولها ذهباً
والنعش رصعتم بالجوهر الحر
في الذكرى الأولى لرحيلها أعزِّي نفسي في نفسي، وأعزِّي أهلها، ومعارفها، وأبناءها البررة عادل، ويوسف، وكمال، وسامي، ونبيل، وحبيب، وكريمتيها العزيزتين . إنّ العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا على فراقك يا أم عادل لمحزونون .
إنّ من حقها علينا أن ندعو لها بالرحمة والغفران، فـ{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)} (الفجر) . والسلام عليها يوم وُلدت، ويوم ماتت، ويوم تبعث حية.
وليس هناك أجمل مما سطرته أنامل الشاعر سالم المالك في قصيدته خير النساء:
أواري الثرى من كانت أماً وخالةً
وكانت لكل الناس بالخير تنهلُ
أواري الثرى نوراً مضيئاً وغيثها
نديٌ لها في كل بيتٍ شمائلُ
أواري الثرى خير النساء بخلقها
فيحزن قلبي والعروق تجللُ
أواري الثري تلك الجليلة خالتي
إلى جنة الفردوس روحك تحملُ
أواري الثرى والله يعلم حالتي
ودمعيَ مسكوبٌ وعيني تذبلُ
فأبكي على شمس النساء بدفنها
وأبكي على بدر ضياؤه يأفلُ
- علي صالح الفهيد