اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
تطرقت في مقالة سابقة إلى التجنيد الإلزامي والمبررات والأسباب الداعية إليه، وما هي المردودات الأمنية والوطنية التي تعود على الدولة فيما لو تبنّت هذه الخدمة والمقالة السابقة تحت عنوان: الخدمة العسكرية الإلزامية بين التحسب لأمر خطير ودعوة الشباب إلى الخير، وموضوع التجنيد الإلزامي من الموضوعات المطروقة والمتداولة تحدث عنه الكثير عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي ودعا إلى تبنيه مفتي عام المملكة، باعتباره يلامس جانباً من هموم المجتمع، وثمة أحداث جارية على الساحة تستثيره، واحتمالات وراء الأفق ترسل نذيره.
وهذه الخدمة لها من المبررات ما يؤيدها، ويوجد من أصحاب الرأي من يساندها، كما أن هناك مَنْ يعارضها، ويرى عدم الحاجة إليها، محتجاً في ذلك بأن مراكز التجنيد مزدحمة بالمتقدمين الذين يرغبون في الالتحاق بالخدمة العسكرية النظامية ومع احترامي لأصحاب هذا الرأي الذين يرون في هذا التجنيد خياراً بديلاً يغني عن التجنيد الإجباري حيث غاب عنهم أن هذا الخيار البديل هو في ذاته مشكلة ينبغي معالجتها وحلها بمعزل عن موضوع الخدمة العسكرية الإلزامية إذ إنه من غير الممكن أن تكون المشكلة خياراً، وتمثل حلاً، فالازدحام أمام مراكز التجنيد يدل في أحد جوانبه على شكل من أشكال البطالة، بالإضافة إلى عجز هذه المراكز عن الاستجابة لمطالب الراغبين في الالتحاق بالخدمة العسكرية التطوعية، مما يوحي بأن كثرة الإقبال عليها مع تعذر القبول ينم عن بطالة وخلل إداري.
وعلى افتراض أن هذه المراكز سجلت كل مَنْ تقدم إليها فإن هذا التسجيل يحل مشكلة آنية تتعلق بمدى استيعاب الخدمة العسكرية النظامية، وهذا الاستيعاب يزيد من عدد القوات العسكرية من حيث الكم زيادة متواضعة وغير محسوبة، دون أن يكون لهذه الزيادة أي تأثير من حيث الكم والكيف، الأمر الذي لا تنتفي معه الحاجة إلى التجنيد الإلزامي، ولا يغير في المعادلة شيئاً حيث يختلف هدف التجنيد الاختياري عن الهدف البعيد للتجنيد الإجباري والبون بين الاثنين شاسع وألقاب واسع.
وبقدر ما يهدف التجنيد الإلزامي إلى جهوزية أفراد المجتمع لمواجهة أي طارئ والتحسب لاحتمالات المستقبل فإنه يساهم في حل بعض المشكلات الاجتماعية التي يعاني منها المجتمع، ومن ضمنها مشكلة البطالة التي أدت إلى تكدس الراغبين في الالتحاق بالخدمة العسكرية النظامية أمام مراكز التجنيد دون أن يجد هؤلاء استجابة من هذه المراكز مع الأخذ في الحسبان أن التجنيد الإلزامي لا يحل محل التجنيد النظامي ولا يقوم مقامه، كما أن الثاني ليس بالضرورة يغني دائماً عن الأول إذا ما دعت الحاجة إليه، مثلما يدعي بعض أولئك الذين لا يؤيدون فكرة التجنيد الإلزامي وينظرون إليها من خلال الظلام بدلاً من النظر عبر النور.
وقد غاب عن هؤلاء أن الخدمة العسكرية الإلزامية أو ما يطلق عليه بعضهم الخدمة الوطنية، علاوة على أهدافها العسكرية لخدمة الأمن الوطني في بعده العسكري، فإن لها أهدافاً تخدم الأمن الوطني في أبعاده الاجتماعية والفكرية والثقافية، حيث إن هذه الخدمة ينصب تركيزها على الفراغ للحد من تأثيره المدمر، باعتبار الفراغ والبطالة يمثلان مشكلتين متلازمتين تعود إليهما معظم المشكلات التي تؤثر تأثيراً حاداً على الأمن الاجتماعي والفكري والثقافي، وبالتالي تؤثر على الأمن الوطني.
وخليق بهذه الخدمة التي تحرص على تطبيق المبادئ الدينية والتمسك بالثوابت الوطنية مع مراعاة الرفع من مستوى القيم الاجتماعية والفضائل الإنسانية أن تجعل من الدين والوطن والشرف والواجب ركائز أساسية ومحطات مرجعية بحيث تحارب من خلالها هذه الآفات الضارة وتعالج أسبابها مركزةً على الفراغ والبطالة بوصفهما في مقدمة الأسباب التي ترتب عليها وجود المشكلات السلوكية في المجتمع، ومنها على سبيل المثال لا الحصر الانحرافات السلوكية لبعض الشباب والممارسات الفاسدة بما في ذلك المخدرات والسرقة والتفحيط والميل إلى الإجرام والعنف وغيرها.
والدولة عندما تكون الكثافة السكانية فيها عالية وقوتها العسكرية على درجة كبيرة في جانبها الكمي مع التميز في جانبها الكيفي، بالإضافة إلى امتلاك ناصية التقنية العلمية والعسكرية، ولها باع طويل في مجال التصنيع العسكري، كما تقف في الوقت نفسه على أعتاب الرادع النووي بعد أن توفر لها الرادع التقليدي وما فوق التقليدي، عندئذ تكون الأخطار المحتمل أن تتعرض لها هذه الدولة بالإمكان ردعها، بفضل ما يتوفر لها من قابلية التصدي لتلك الأخطار، وقدرتها على ضمان أمن التهديد مقابل أي تهديد أمني ضدها.
وهذه المزايا إذا ما توفرت لدولة ما، وأضافت إلى سياسة القوة قوة السياسة في الداخل والخارج على النحو الذي يُمكِّنها من إيجاد تحالفات إقليمية ودولية، تستفيد منها لدعم قواتها النظامية العاملة، فإنها في ظل هذا الوضع تكون في سعة من أمرها فيما يتعلق بسن قانون الخدمة العسكرية الإلزامية، أما إذا ما اختلت هذه المعادلة الأمنية ورجحت كفة التهديد الذي يتعرض له أمن هذه الدولة على كفة قدرتها على ردع هذا التهديد، فما الذي يمنعها في هذه الحالة من سن قانون التجنيد الإلزامي والأخذ به لاستعادة أمن التهديد المفقود من جهة، ومن قبيل التحوط للأسوأ والتحسب لما هو قادم من جهة أخرى.