د. حسن بن فهد الهويمل
الأخطرُ من الجهل, والأمية سيطرةُ الأهواء، والشهوات، والتعصبات المذهبية على قادة الفكر، والخروج من التفاعل الإيجابي بين المختلفين إلى الصراع, والمصادرة, والإقصاء، وتأليه الأهواء.
العصر الحديث يتسم بالانفجار المعرفي، وثورة الاتصالات, وهذه السمة كفيلة بتوفير المعرفة لكل راغب, دون عناء.
وهي - في الوقت نفسه - معول هدم للثوابت, والمسلّمات. وسبيل قاصد للشقاق, والشك, والارتياب، وتشكيل أنساق ثقافية جديدة.
والإشكالية ليست في شح المعرفة، ولا في مشقة الحصول عليها، ولكنها في سوء استخدامها، وخطأ توظيفها. وذلك ما نراه, ونسمعه في كافة المشاهد الفكرية.
والقراءة مستويات فمنها: التأصيلية. والتأسيسية, وتلك نخبوية, وليست (شَعْبَوِيَّة) كما يحلو للبعض إطلاقها، وإن طُرحت مشاريع توعوية منطلقاتها: (القراءة للجميع). والاستعراضية, والاستكشافية, وقراءة التسلية، ومَلْء الفراغ.
والقارئ الجاد المتابع لا يُعَدُّ من دهماء الناس، لأنّ مكتسبه القرائي يخوله القول في الشأن العام. وهذه الصبغة تدفع بنا إلى تصور مفهوم (الثقافة) و(المثقف).
والمصطلحان جموحان, مراوغان.لم يستطع أحد أطرهما ضمن مفهوم متفق عليه. حتى لقد تجاوزت تعريفات (الثقافة) أكثر من مائة تعريف, ولما يتفق المعنيون على واحد منها.
وهي بهذا تدخل في مفهوم (المعروف لا يعرّف). فالمعنيون لديهم تصور ذهني للثقافة بوصفها محصلة القراءة.
وفي النهاية, فالثقافة كمٌّ معرفي متنوع, وسلوكٌ حضاري متميز. فلا ثقافة بدون معرفة, ولا معرفة بدون سلوك حضاري, ومسؤولية مجتمعية. وكل ذلك معطى قرائي، يحملنا على أخذ القراءة مأخذ الجد. فهي لم تكن للتسلية, ولا لملء الفراغ, وإن كان ذلك بعض معطياتها الأقل أهمية، وقيمة.
يوصف العالم العربي بضعف القراءة, حتى قيل :- أُمة اقرأ، لا تقرأ. ومثل هذه الإطلاقات لا يمكن أخذها مأخذ الجد، فهي إما أن تكون من باب التحريض على القراءة، أو تكون مغرضة. ومِنَّا سماعون, يُسلِّمون لفرية : (العرب لا يقرؤون. وإذا قرأوا لا يفهمون. وإذا فهموا لا يعملون)
كما أنّ القراءة لا يمكن أن تقاس بالكم المتداول, وإنما تقاس بنوع المقروء، ومنهجية القراءة، والإرث المعرفي: ريادةً, ونوعاً, وكمّاً.
والتراث العربي بكَمِّه, وكيفه أصبح عشق الاستشراق. والمخطوطات التي تُعَد بالملايين، مما نهبه المستعمرون، وحبسوه في مكتباتهم العالمية، وأخرجوا منه ما يستفيدون من إخراجه, فيما تمكن (معهد المخطوطات العربية) من تصوير ما لا يزيد عن نصف مليون مخطوطة من تلك المسروقات؛ كل ذلك دليل قاطع على أن الأمة العربية أمة قارئة, ورائدة في القراءة، والكتابة.
غير أنّ المتغيرات العصرية قلبت الموازين, وجعلت المغلوب يقلِّد الغالب، ويتعمّد التقليل من شأن نفسه, وتضخيم ما عليه المستبد المستكبر. ومن المعايب الملصقة ظلماً, وعدواناً القول بـ(أمية العالم العربي).
وكيف يتأتى للشامتين ما يودون إلصاقه فينا, وفينا (كتاب الله) الذي لما تزل سوره، وآياته تنشق عن دلالات، ومعجزات، وقيم متعددة, وسعتها كتب التفسير, والأحكام، والأخلاق.
ويكفي أن يقرأ المتردد كتاب (دستور الأخلاق في القرآن) وهو أطروحة دكتوراه مقدمة (للسربون).
ويكفي استعراض كتاب (رحلة الكتاب العربي إلى ديار الغرب فكراً ومادة).
لقد تقصّيا الظاهرة الأخلاقية, والمعرفية بمنهج علمي إحصائي, تاريخي، يدحض الحجج الواهية التي أضلت المغفلين, وحملتهم على ظلم أهلهم، والتنقص منهم.
والقراءة بوصفها طريق التحضر, والخلود, لها أخطاؤها، وأخلاقياتها. فما كل قراءة تؤدي بك إلى المعرفة المجردة من الأهواء.
فالقراءة العَجْلى. والقراءة الابتسارية التي تخطف المقروء, دون تبصُّر. والقارئ المحكوم بأفكار مسبقة الصُّنع، تسيطر على ذهنه. والمقروء الذي لم يتقن الكاتب عبارته، ولم يجل بها غَبَشَ الغموض. كل ذلك يؤدي إلى سوء الفهم. وفي النهاية:-
تتجلى فوائد القراءة بترجمة معطياتها على أرض الواقع: سلوكاً, ورؤية, وموقفاً. ليكون الإنسانُ إنساناً مع نفسه، ومع الآخرين.