د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
السلطة واحدة، ولكن أقنعتها مختلفة باختلاف أدواتها.. والسعي لها اتخذ أساليب مختلفة، هي في أساسها المحدد الأساس للتاريخ البشري والإنساني؛ فهي قد تأخذ طابعًا شموليًّا له مبررات تدعمه، وتأخذ شكلاً انتخابيًّا كالممارس في كثير من الدول الغربية اليوم بمبررات أخرى، أو قوميًّا يهدف للحفاظ على المصالح القومية التي تهددها دائمًا قوى خارجية، لكنها في جوهرها واحدة.
ولم يكن انتخاب دونالد ترمب للرئاسة الأمريكية هزيمة للديمقراطيين فقط بل هو هزيمة للديمقراطية الأمريكية كما يروج لها؛ فقد افتخرت النخب السياسية الغربية دائمًا بنظمها الانتخابية التي تضمن تمثيل الشعب في انتخاب أفضل مسؤوليه، وتضمن مع ذلك فوز الأقرب لتطلعاتهم وطموحهم.. على عكس الشموليات الاشتراكية التي تحتكر السلطة، وتقمع الشعب. وكانت الديمقراطية الغربية ترى انعدام المساواة الاقتصادية ثمنًا معقولاً للحرية، والنظم الشمولية تؤكد أن الاستئثار بالمال مصدر كل الشرور.
ويرى بعض العارفين بالنظم الديمقراطية أنها - باستثناءات قليلة - نظم لم تصمم فعلاً لتنفيذ إرادة الشعوب؛ لأنها تعمد في جوهرها على سلطة من نوع آخر، هي سلطة المال والإعلام. ومن يملك الأول يؤثر على الثاني، ومن يسيطر على الثاني يسيطر عليه بقوة المال. أي بالمختصر المفيد: المال هو الناخب الحقيقي في النظم الرأسمالية الديمقراطية. وليس في الديمقراطيات الانتخابية أي صمام أمان ضد تبوُّؤ شخص مثل ترمب، أو حتى شخصية مثل هتلر السلطة، إلا وعي الشعوب، وتسلحها بالوعي الإنساني، ولكن لا ضمانات قوية لذلك. ولم يذكر في تاريخ النظم الديمقراطية أن أوصلت الانتخابات ممثلين حقيقيين للشعب عامة لسدة السلطة. وقد ينتخب رئيس من خلفية شعبية أو فقيرة، ولكن بعد موافقة أصحاب سلطة المال عليه ودعمهم له. ويدافع كثير من المتحمسين للديمقراطية بالقول إنها بالرغم من مثالبها الكبيرة تعد أفضل أساليب الحكم وأكثرها نجاعة.. قد لا تأتي بالأفضل دائمًا، ولكنها على الأقل تضمن تداول السلطة، وتضمن هوامش من الحرية عمومًا، افتقدتها النظم الأخرى.
السلطة واحدة، وأقنعتها مختلفة، ووعودها لشعوبها متشابهة لحد كبير: الأمن، الرفاهية، المساواة، والوعود بمستقبل أفضل للأجيال.. فللناس حرص فطري على أبنائهم أكثر من حرصهم على أنفسهم في مرحلة من مراحل عمرهم. وكان توماس هوبز يرى أن الإنسان شرير بطبعة وجبلته، وأن حرب الجميع على الجميع هي من صميم تكوينهم الأصيل؛ ولذا فلا بد من «حاكم مستبد» بيده السلطة كاملة؛ ليقمع هذه الروح حتى ولو تنازل له الناس عن جميع حرياتهم وحقوقهم. وخالفه جون لوك فيما بعد بالقول إن الإنسان تطور، ويمكن أن يعيش في حالة سلام ووئام؛ لذا فلا بد أن يتعهد هذا الحاكم بحفظ ثلاثة حقوق للإنسان: حقه في الحياة، وحقه في الحرية، وحقه في الملكية. وتعتبر التطورات السياسية بعد ذلك تنويعات في النغمة على هذه المقامات ذاتها. مقايضة الأمن بالحرية، والرفاهية المستقبلية بالرفاهية الحالية.. وهلم جرا.
قبل عقود روج الغرب الرأسمالي للعولمة، وهدم الحدود الاقتصادية للدول، وعمل على تعميم الحرية الاقتصادية حول العالم، وظهر من يدعي الانتصار الأبدي للرأسمالية، فوكوياما وأتباعه، وأجبرت الدول الأضعف في هذا النظام على التخلي عن بعض من سيادتها. وتمت محاولة عولمة حقوق الإنسان من منظورها الغربي، وقيم رأسمالية أخرى بالقوتين الناعمة وغير الناعمة، وتم تدمير بلدان بأكملها بهذه الحجج. وكان الصراع الأكبر مع النظم القيمية القوية الأخرى المختلفة مثل النظام الإسلامي هو الأقوى بعد انهيار الشيوعية. وهنا تنبأ هنتجتون بصراع الحضارات، وقصد به الحضارة الإسلامية. ولكن الغرب ذاته، الذي لعب دور القوي المستبد، لم يستطع تحمُّل عبء هذه العولمة، والتخلي عن حدوده، والسماح بحرية التنقل.. ومن هنا بدأ التحضير لهدم العولمة التي خالها الغرب مشاركة من جانب واحد.
واستشعر المهتمون بالشأن السياسي والاقتصادي العالمي العواقب الوخيمة لانهيار أحلام العولمة التي كانت خيارًا ورديًّا لمستقبل غير واضح المعالم. ولم يتوقع أحد أن تسهم العولمة في ظهور قوى اقتصادية أخرى، كالصين والهند والبرازيل، تقوض السيطرة الغربية على الاقتصاد العالمي. ولم يتخيلوا أن للعولمة ثمنًا يجب أن يشاركوا في دفعة؛ ولذا توجه الغرب رويدًا رويدًا نحو اليمين، وتعززت القيم القومية المتحدية للعولمة في معظم الدول الغربية: أجبرت بريطانيا على الخروج من الاتحاد الأوروبي، وأصبح مصير الاتحاد مجهولاً. ظهرت خلافات أمريكية مع دول أمريكا اللاتينية.. إلخ. ولذا انتُخبت شخصيات ذات توجُّه قومي بحت في اليابان، والهند، وروسيا، وأخيرًا في أمريكا القوة الأولى الداعمة للعولمة بانتخاب دونالد ترمب.
ما يجمع هذه الحكومات هي: محاربة العولمة، الوقوف في وجه الهجرة والعمالة الوافدة، الحمائية، التركيز على حق المواطن الأصلي أمام الوافد، التشديد على القضاء على الهجرة بأي ثمن. وقد أطلق على هذا التوجه «القوميون الجدد» على وزن «المحافظون الجدد». والقومية الجديدة ليست قومية عرقية، ولا قومية مدنية، بل قومية وطنية شعبوية.