د.عبد الرحمن الحبيب
شيخ قبيلة عظيمة أخبروه أن لصاً سرق من ممتلكاته الشاسعة ديكاً، فقال: لا يهم. مرت الأيام فقيل له إن هناك من سرق منه جملاً، فقال: أملاكي كثيرة فلا يستحق البعير عناء مطاردته.. بعد فترة قيل له إن ابنته قد اختطفت! فقام الشيخ جزعاً، قائلاً: أما الآن فسنبحث عن سارق الديك!
هذه قصة معبِّرة رواها الكاتب الأمريكي الأشهر توماس فريدمان من بنات أفكاره بعد هجمات 11 سبتمبر الإرهابية في نيويورك، ليخلص منها بوجوب ملاحقة سارق الديك مهما كلف الأمر ليس فقط للوصول إلى مختطف البنت بل لردع الجميع، فلم يعد ثمة فرق بين اعتداء صغير أو كبير على أمريكا «شيخ العالم»، فينبغي فتح جردة لسحق كل من يقف في وجه ابن هذا الشيخ فريدمان!
لنرجع قليلاً، فبعد حرب فيتنام عاشت أمريكا ما يسميه الخبراء النفسيون أعراض الضغط العصبي التي تلي صدمة نفسية.. ويؤكد المعهد الأمريكي للطب النفسي أن المصابين بها يشعرون بالتوتر والقلق بلا سبب يدعو للخوف، مثل أن أخاف من رجل عادي يمشي مسرعاً في الشارع بأنه قد يهجم عليّ. ويذكر أن نحو عشرة آلاف من الإطفائيين والشرطة والمدنيين الذين تعرضوا لاعتداءات 11 سبتمبر في نيويورك واجهوا هذه الأعراض. ويُقدَّر نحو 61 ألفاً من 406 آلاف عاشوا هذه المأساة في نيويورك، واجهوا على الأرجح هذه الأعراض (نيويورك أ ف ب).
فهل كان فريدمان مصاباً بأعراض الضغط العصبي عندما طالب بالعثور على سارق الديك مهما كان الثمن، وهو يعلم أن الأمر يستلزم إشعال حروب وسحق أبرياء وإهدار حقوق وتدمير بلدان، كما حصل في غزو العراق وإقامة سجن جوانتانامو وسجن أبو غريب وقتل آلاف الأبرياء؟
يقابل قصة فريدمان قصة مخالفة: يروي هيثم مناع حكاية وباء أتى إلى قرية، فوقف له على بابها شيخ حكيم، وقال له: «أما لك أن تترك أهل هذه القرية وحالهم، فهم لم يرتكبوا ذنباً ولم يعتدوا على أحد، فقال الوباء للشيخ: لا تقلق، فأنا لن أقيم طويلاً ولن ينال الداء أكثر من أربعين شخصاً. وبعد شهر، التقى الوباء بالشيخ وهو خارج من القرية فبادره الشيخ: «ألا يكفي أنك جئت بالأذى بل وتزيد على ذاك بالكذب، لقد قتلت أربعمائة شخص من أبناء القرية». فأجاب الوباء: «لا تظلمني أيها الحكيم، أنا لم أتعرض لأكثر من 40 شخصاً، أما الآخرون فقد قتلهم الخوف والفزع».
إذا كان الخوف شكَّل حرباً ذاتية داخل مجتمع القرية، فهو يتشكل الآن في العالم بصورة أخرى مشابهة.. إنها حرب داخل جسد العولمة الرأسمالية التي لم يعد لها عدو خارجي. في السابق، كان للرأسمالية خصم اشتراكي (الاتحاد السوفييتي) يوازن معها لعبة الخير والشر، يسمح للمعارضين داخل كل فريق بأن يطلقوا مشاريعهم الفرعية، منتجة تنوعاً ثرياً وتعددية في سرد الحقيقة.
إنما بعد انتهاء الحرب الباردة بانتصار الرأسمالية، أعلنت الأخيرة احتكارها لرواية الحقيقة ونفي رواية الآخرين، وصارت المعارضة العقلانية المعتدلة لهذا الاحتكار تُسحق المرة تلو الأخرى، لتنمو تدريجياً المعارضة المتطرفة منتجة العمليات الإرهابية المجنونة.. وكلما زادت هيمنة النظام العالمي الواحد زاد الإرهاب الموجَّه نحوه.. وبالتالي تخلق العولمة عدوها من ذاتها، تخلق نقيضها من أفعالها.. العولمة تخلق الإرهاب كما يقول المفكر الفرنسي بودريار: «هيمنة العولمة يقابلها عنف الخصوصيات».
بين العولمة (الجسد) والإرهاب (الأعراض) يأتي العلاج الشعبي تحت ضغط حالة الخوف من الآخر، لتتفجر الشعبوية بسجال محموم في قلب العولمة: الإنترنت، الذي كنا نسميه العالم الافتراضي، صار الآن حقيقة واقعية أكثر من الواقع المادي، تسيطر على إعلامه من كل تيار أقصى تطرفه، بسجال شعبوي محموم ينبع من الطبيعة الاستهلاكية للإعلام الافتراضي (الإنترنت)، التي تتسم بالإثارة والمبالغة الحادة..
التوجه الرأسمالي العولمي أصبح تياراً جارفاً متعسفاً قائماً على مبدأ الربحية بالمعنى الاقتصادي الضيق، بينما الشعبوية المعارضة للعولمة انجرفت مع هذا المعني الربحي.. فكل نشاط إنساني وكل منتج ثقافي تحول إلى سلعة وإعلان تجاري.. تحول كل شيء إلى بضاعة، حتى مشاعر الإنسان أصبحت مجرد سلعة.. انظر إلى الشعبويين في كل مكان تزينهم الإعلانات أينما حلّوا، حتى عندما يتعرض أحدهم إلى مرض عضال أو حادث خطير أو وفاة عزيز، يتم استثماره شعبوياً..
هذا مبدأ طبيعي، بمعنى أنه غير مصطنع ولا مفروض بالإكراه، بل تلقائي أنتجته المرحلة، لكن تم ضخه والترويج له معرفياً وإقناع الرأي العام به، كقدر حتمي لا مناص منه ولا محيد عنه، دون السماح بوجود المخالف. كان ينبغي أنسنته قليلاً، ومقاومة تفرده بنا دون سائر المبادئ، فثمة مبدأ «معنوي» كما يسميه السوسيولوجي آلان تورين يواجه المبدأ الطبيعي. فلا بد من كبح جماح العولمة بنمطها الرأسمالي الشرس عبر إعلان إنسانيتنا التي تمتلك حقوقا فوق طبيعية، وتمتلك وجوداً عضوياً حيوياً يتميز عن البضاعة الاقتصادية. ولا بد من ضبط الشعبوية المروجة للخوف من الآخر.. فلكل مجتمع طموحاته ومخاوفه، لكنه سيدمر طموحاته إذا سمح لمخاوفه بالهيمنة عليه..