خالد بن حمد المالك
في حقبة الستينيات، حيث كان المد القومي بضجيجه وصوته العالي الممتد، واستحضاره لكل الإمكانات لطرح آلية التحرّر من عبودية الاستعمار، اعتماداً على تهييج الشارع العربي، ليعبر عن ضيقه من المحتل، وإصراره على أن يأخذ هذا المحتل عصاه ويرحل.
* *
كانت أدوات التعبير محدودة، وبخاصة الإعلامية منها، ولم يكن هناك تكافؤ بين مستعمر مدجج بالسلاح، ومواطن لا يملك إلا مواطنته، وتشبثه بأرضه، وإصراره بأنه لا مكان للعدو على أرض ليست له، وحكمه لشعب ملّ منه.
* *
وكانت مصر هي صوت الشعوب العربية إعلامياً من خلال إذاعة صوت العرب، وإذاعة القاهرة، والبرنامج الثاني، حيث البرامج والتعليقات التي تحشد الهمم، وتنادي بتحرير ما تبقى من دول عربية مستعمرة، وأنه لا مكان للمستعمر على أرضها مهما غلا الثمن في أي دولة عربية.
* *
وكانت انتفاضة الشارع العربي تتسع من المحيط إلى الخليج، دون أن يوقفها جبروت المحتل، وكانت الجزائر رمز التحرّر العربي، بأن قدمت مليون شهيد لطرد المستعمر الفرنسي من ربوع البلاد، ليجد الرئيس الفرنسي التاريخي شارل ديجول نفسه مجبراً على أخذ قرار تاريخي بالانسحاب من الجزائر بعد فشل فرنسا في فرنستها.
* *
كانت فلسطين هي الأخرى مرتكز عمق الدعوة إلى تحرّر الدول العربية من ربقة الاستعمار، وكانت البدايات لطرد إسرائيل يمثّلها ذلك الشعار الجميل الذي كان يردده الشارع العربي وإن كان مصدره حزب البعث: أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة، فقد كان العرب على قلب رجل واحد، قبل أن تمتد الخلافات والمؤامرات فيما بينهم.
* *
جاء القوميون العرب بأطروحاتهم، والبعث العربي بأجندته، والأحزاب الاشتراكية والشيوعية بمحاكاتها لأنظمة غير عربية، فدخل في قواميسهم التأميم والاشتراكية، وتمادوا ليفسدوا كل شيء جميل، وليطلقوا مصطلح الرجعية على بعض الأنظمة العربية، ويتآمروا عليها، ويتدخلوا في شؤونها، لينقلب لاحقاً السحر على الساحر، فيختلفوا فيما بينهم، وتكثر الانقلابات في دولهم، فيما تتمتع الدول الأخرى بالاستقرار.
* *
عاش من كان في أعمارنا تلك المرحلة القلقة التي شابها ما شابها من التوجس والخوف من المؤامرات، بينما بقيت فلسطين مجرد ورقة في شعارات تدغدغ بها الأنظمة العسكرية مشاعر المواطنين العرب، ومثلما هي القومية العربية، والوحدة العربية، والحرية والاشتراكية، وطرد الاستعمار وأعوانه، وأننا (أمة العرب لن تموت وإني .. أتحداك باسمها يا فناء)، مع ما في هذا القول لحزب البعث من مخالفة شرعية.
* *
لو أن العرب استمروا على قلب رجل واحد، ونأت كل دولة عن التدخل في شؤون الدول العربية الأخرى، وابتعد كل زعيم عن فرض أجندته وسياسة بلاده على الزعيم الآخر، وتصالح مع إخوانه الزعماء الآخرين، وانتقل كل زعيم من القول إلى الفعل، وإلى الارتباط بشعبه بدلاً من تسليم أمر بلاده إلى الخارج، لما كانت هزيمة أو نكسة عام 1967م ولما وصل الأمر بنا إلى ما نحن عليه اليوم.
* *
وللأسف فما زلنا إلى اليوم نكرر الأخطاء نفسها، ونحاكي الماضي بكل ما حفل به من سلوكيات أضرت بأمتنا، فبعد جمال عبدالناصر جاء صدام حسين ثم حافظ الأسد فابنه بشار الأسد ومعمر القذافي وعلي عبدالله صالح وآخرون ليضعوا أمتنا على هذا النحو من الممارسات التي أضاعت حقوقنا، وجعلتنا أضعف من أن نحرر فلسطين، أو نحمي بعض دولنا من الضياع والتمزّق، والفوضى التي أنهكت دولنا وشعوبنا.
* *
هذه بعض من ذكريات ما زالت تختزنها الذاكرة، استعرضها على عجل، بينما تمر منطقتنا بأسوأ مرحلة، أمنياً وعسكرياً واقتصادياً، وإن كان هناك من استثناء فهي دول مجلس التعاون التي حافظت في كل المراحل والحقب على استقرارها، وابتعد قادتها عن المغامرات والتهور في سياساتها، مما جعلها في منأى عن الوضع المتردي الذي مرت وتمر به كثير من الدول العربية.