د. خيرية السقاف
في مواقف الفقد، والحزن تسترخي النفوس المتمردة، وتلين مفاصلها فتذهب تندمج في مشاركة المحزون همه، وكربته..
في حضور الأحزان يقرب الناس بكلماتهم، وسعيهم، بدموعهم، وحضورهم، وتقوم المواقف المشتركة، وتصغر الدنيا في عيونهم، وتتحجم مطامحهم، وأخيلتهم، وينسون شقاقهم، وكراهيتهم، وغيرتهم، وغبطتهم، وفرقتهم، وتباعدهم..!
تسترخي قواهم، وينكسر فيهم تمردهم، وتخجل عيونهم، وتختبئ كراهيتهم..!
كأنهم في مواساة الحزين منهم قلباً واحداً في أجساد عديدة..
يواجهون في أحزان غيرهم حقيقتهم، يلجأون للهروب منها، أو سترها..!!
وربما ينوي كل منهم أن يطوع نفسه بعد الأحزان على عدم النسيان لحقيقة نفسه؟!
كتبت كثيراً عن الحزن المُطهِّر، الحزن الذي يعقم في النفوس أدرانها، ويبيد فيها خشاشها،
ويزيل عنها أغبرتها..، فتكون بيضاء من غير غش..!!
وقد رأيت في مواقف الأحزان باختلافها تناقض البشر، ومفارقاتهم، بمثل ما رأيت فيها وفاءهم، وصدقهم..!
ففي الأحزان يكون المآل في النفس البشرية للانسياب المائي نحو الله، والتعمق الواعي في بؤرة العجز الفردي، فيصبح الحزن رسولاً يطرق كل مفصل في المرء بذاكرة تنبههه بعدمية حوله، ووهن قوته، لذا يكون الحزن مطهراً فعالاً، وبوصلة دقيقة..
كما في حضوره تنبسط أنسجة المشاعر فيقبل على المحزون من الناس السواد منهم، بكامل انفعالاتهم المواسية، وتتمدد بينهم أنسجة العلاقة المتينة، تُرتق شقوق التباعد الموحش، وتُبلسم جروح الفرقة الموجعة، وتُلم فجوة الشتات المنبت!!..
ويكون حزن الواحد حزن الجميع، وتصغر في مداه الدنيا في عيون الكل..
مشهد كهذا يحرض الأمل، بأن يفعل المرء خيراً بنفسه، فيرتب لها أبجدية النقاء الدومي، يلضم بحروفها عُقد المحبة، والألفة، والإيثار، والسلام، ليجعل الحياة له، وللآخر ميدان حرث، وزرع، وحصاد حين بهذه الأبجدية يكون قد صاغ جُمل الفعل، وتطبيقه.
فلا تتفرق القلوب، ولا تشحن النفوس بعد أن يدلفوا خارجين عن دار المحزون فيهم..!!