د.عبدالله مناع
لم يمض أكثر من شهر - بالتمام والكمال - على قرار مجلس الأمن رقم (2334).. الذي قضى بإجماع أعضاء المجلس الأربعة عشرة وامتناع الولايات المتحدة الأمريكية على التصويت بـ(إدانة الاستيطان الإسرائيلي في أراضي السلطة الفلسطينية وإيقافه لعدم شرعيته)، الذي تقدمت به فنزويلا ونيوزيلندا وماليزيا والسنغال، والذي استقبل بعاصفة من التصفيق عند إقراره في داخل قاعة المجلس.. وبترحيب دول العالم أجمع المحبة لـ(السلام) بامتداد المعمورة.. خارجه، إلا وكان الرد الإسرائيلي (العنترى) عليه في الثالث والعشرين من هذا الشهر (يناير).. وفي اليوم الثالث من وصول الرئيس الأمريكي الجديد (دونالد ترامب) إلى المكتب البيضاوي بـ(البيت الأبيض) جاهزاً: بـ(رفض القرار).. و(السماح ببناء 566 وحدة استيطانية في القدس المحتلة)، التي وعد الرئيس ترامب بـ(نقل) السفارة الأمريكية إليها إبان حملته الانتخابية.. مشفوعاً بـ(مبررات) سياسية طفولية ساذجة على لسان رئيس بلدية القدس الغربية بـ(أن قواعد اللعبة تغيرت بوصول دونالد ترامب للسلطة، إذ لم تعد أيدينا مقيدة كما كانت وقت باراك أوباما)..؟!
فماذا سيفعل مجلس الأمن ودوله الأربعة عشرة في الرد على هذا التحدي، و(المروق) الإسرائيلي الذي اعتادته طوال حياتها.. حتى كاد أن يوصلها مراراً إلى مرحلة طردها من المنظمة الأممية نفسها.. لولا دعم الولايات المتحدة الأمريكية لها في الجمعية العمومية - بـ(شراء) أصوات الدول الأعضاء وتقديم المساعدات المالية والعسكرية لهم -.. حتى لا يصوتوا لصالح قرار طردها، ولولا (الفيتو الأمريكي) الدائم.. الذي كانت الولايات المتحدة الأمريكية تستخدمه لصالحها.. في مجلس الأمن حتى لا تُكره (إسرائيل) أو ترغم على ما لا تريده..!! وهو ما جعل من (إسرائيل) في النهاية: دولة منبوذة خارجة على القانون..!! إلا عند حليفتها الاستراتيجية الكبرى (الولايات المتحدة الأمريكية)..؟!
إن لدى (مجلس الأمن) الكثير مما يمكن فعله لإجبار إسرائيل على تطبيق قراره بـ(إيقاف) الاستيطان الإسرائيلي والبناء فوق أراضي السلطة الفلسطينية.. ولكن ذلك يعتمد على دول المجلس الأعضاء أولاً، ومواقفهم من هذا المروق الإسرائيلي: فرادى ومجتمعين..؟ وهي قصة أخرى قد تطول في البحث عن (فنزويلا) أخرى أو (نيوزيلنده) أو (ماليزيا) أو (سنغال) أخرى..؟ إلا أنه يبقى في إمكان (مجلس الأمن).. دعوة الدول الأعضاء بـ(الجمعية العمومية) للتصويت على أي قرار (عقابي) يراه لحمل إسرائيل على الرضوخ لـ(القرار 2334)، وإنفاذه.. سواء بـ(تجميد) عضوية إسرائيل في منظمات الأمم المتحدة.. أو بـ(مقاطعتها) سياسياً أو اقتصادياً.. أو بـ(طردها) من منظمة الأمم المتحدة إجمالاً، وهو ما سيحتاج إلى بذل جهود مكثفة من قبل المجتمع الدولي، ودول عدم الانحياز، ودول العالمين: العربي والإسلامي..؟!
* * *
لقد عبر الفلسطينيون على لسان المتحدث باسم السلطة الفلسطينية: السيد نبيل أبوردينة.. عن إدانة (السلطة) لهذا القرار الذي اعتبره تحدياً لقرار مجلس الأمن الدولي، وهو يطالب المجلس بـ(التحرك الفوري وفق القرار - 2334 - لوضع حد لسياسة الحكومة الإسرائيلية المتطرفة التي تعمل على تدمير حل الدولتين)؟! إلا أن وزير خارجية السلطة الفلسطينية الدبلوماسي الفلسطيني البارع (رياض المالكي).. أضحكني في تنديده (الناعم) بالقرار الإسرائيلي بـ(استئناف البناء الاستيطاني في الأراضي المحتلة).. عندما قال بـ(أن الوزارة ترى أن الحكومة الإسرائيلية برئاسة بنيامين نتنياهو.. بدأت بوضع العراقيل والعقبات أمام الرئيس دونالد ترامب، والجهود التي سيبذلها (!!) من أجل تحقيق السلام بين الجانبين: الفلسطيني والإسرائيلي)!! وهو يعلم بالتأكيد أن (ترامب) لم يدل بأية تصريحات - لا قبل ولا بعد وصوله للسلطة - عن جهود سيبذلها من أجل تحقيق (السلام) بين الفلسطينيين والإسرائيليين!! بل ولم يأت على ذكر ملف الاحتلال الفلسطيني.. بل كان يدلي - بمناسبة ودون مناسبة - بتصريحات عن عزمه على نقل السفارة الأمريكية من (تل أبيب) إلى (القدس).. وكأن نقل السفارة الأمريكية هذا يمثل البند الأول في سياسته التي أعلنها في خطاب تنصيبه (أمريكا أولاً)..! ولكنه أغمض عينيه دبلوماسياً.. عن تصريحات (ترامب) الانتخابية هذه.. واعتبرها جزءاً من لعبة الديمقراطية حتى يصل إلى البيت الأبيض، لأن ما يقوله (المرشح) الرئاسي في طريق سعيه إلى (السلطة) شيء.. وما يقوله بعد الوصول إليها شيء آخر..!! إلا أنه.. لا بد أن نلتمس له العذر: فـ(الفلسطينيون) بـ(سلطتهم) المنزوعة السلاح في أراضيهم.. يقفون أمام (احتلال) لم يعرف تاريخ الأمم والشعوب مثيلاً له، فهو إلى جانب التباسه بأساطيره (التلمودية).. مدجج بأعتى أنواع الأسلحة.. التي لا يتورع عن استخدامها دون خلق أو ضمير في قتل من يحمل حتى ولو (سكيناً) من الفلسطينيين، أو تدمير ما يشاء من المنازل والدور فوق رؤوس أصحابها في ليل أو نهار، فقد يفتح له هذا التنديد الهادئ.. الأبواب لمواصلة سعيه وسعي السلطة لتحقيق (حل الدولتين اللتين تعيشان جنباً إلى جنب في سلام) عندما يحين وقته.. في أجندة الرئيس ترامب المشوشة، والتي بدا معها في ساعاته وأيامه الأولى في البيت الأبيض كما لو أنه رئيس (عربي).. لم يكن ليهمه شيء غير تشويه صورة سلفه السابق (أوباما)سواء بإلغاء قانون (الرعاية الصحية) الذي اعتمده.. أو بالانسحاب من الاتفاقية عبر المحيط الهادئ التي أنجزها أوباما، خاصة بعد صدور القرار (2334).. الذي لا يملك (نتنياهو) وحكومته حق إلغائه أو تعديله، والذي سيكون هو المرجع الفاصل.. عند بحث قضايا الحل النهائي - القدس والحدود واللاجئين - ورسم ممتلكات الدولة الفلسطينية على الأرض.
* * *
أما (عربياً).. فلم يحدث غير المتوقع، وهو إدانة الرفض الإسرائيلي للقرار (2334).. بأشد العبارات حماسة، وانفعالاً.. ولا شيء بعد ذلك أو غير ذلك، فـ(العرب).. في ظل هذه القطرية والأحادية والانكفاء على الذات التي اجتاحتهم بعد الغزو العراقي لـ(الكويت)، والغزو الأمريكي للعراق.. وانتهوا إليها بإرادتهم، قد غيبوا أنفسهم.. عن المشهد السياسي العالمي بـ(رمته)، فما عادوا يشكلون أمة.. لها صوتها (الواحد) وكلمتها (الواحدة) عند أصدقائها، وهيبتها عند أعدائها، ورحم الله أجيال القيادات العربية.. التي صمدت وقاتلت ودحرت العدوان البريطاني الفرنسي الإسرائيلي على مصر، ورحم الله القيادات المصرية والسورية والسعودية.. التي التقت كلمتها على تحرير الأراضي العربية المحتلة في حرب أكتوبر المجيدة لتحقق أول نصر فعلي تشهده الأمة العربية، لينفرط بعدها عقد هذه الأمة، فلا تجد نفسها.. ولا تجد من يسمعها أو يصغي لـ(كلمتها) أو يهتم بـ(رأيها).. إن كان سلباً أو إيجاباً.. ودعونا من (الطنطنة) التي يروج لها الإعلام العربي لبعض دوله!!
لكن يبقى الأمل.. في دول مجلس الأمن التي أصدرت القرار (2334)، وفي بقية شعوب العالم الحر ودوله.. من خارجها، التي عاصرت المظلمة التاريخية الفلسطينية على مدى ما يزيد على سبعين عاماً.. في كل من أوروبا وأمريكا الجنوبية وآسيا وأفريقيا.. التي فاجأت (إسرائيل) من قبل كـ(النرويج) بإبرامها لـ(اتفاق أوسلو) وحملها إليه.. أو (السويد) التي فاجأتها بالاعتراف بـ(الدولة الفلسطينية) على حدود الرابع من يونيه من عام 1967م.. أو (باريس) التي أصرت على عقد (مؤتمر سلام) فلسطيني إسرائيلي.. لإنقاذ وانفاذ (حل الدولتين)، والذي ما تزال تعقد جلساته، فـ(إسرائيل) في النهاية.. ليست (الميكادو) الياباني في زمانه أو إمبراطور العالم في أيامنا هذه.. الذي لا راد لكلمته!!