كثيراً ما يتبادر إلى ذهني موضوع الذمم في الشريعة الإسلامية السمحة، وعظمة عمل الإنسان وسعيه نحو إبراء ذمته وتطهير نفسه قبل أن يقابل وجه ربه. الحقيقة، يشغلني، كما هو حال غيري، موضوع هدر المال العام الذي ينتج عن ممارسات خاطئة من بعض المسؤولين بغير وجه حق. وهل تسقط من ذمة ذلك المسؤول بعد تركه للوظيفة؟ أم عليه إعادتها إلى بيت مال المسلمين بإرادته وطوعه أو بالقوة الجبرية متى ما ثبتت إدانته. وبما أن الذمم واحدة - بحسب المنطق - ولا تختلف بين مدين وآخر إلا في مقدار الضرر. لذلك فإن الضرر الذي يحدث من المسؤول في حالة مخالفته للأمانة التي أنيط بها، نجدها تمس الوطن بكامله، ولا ينحصر الضرر بفرد واحد أو أسرة. لذلك فهو أخطر وأعظم ضرراً. في عام 1426هـ صدر أمر سامٍ بإنشاء حساب خيري لدى إحدى البنوك المحلية للراغبين في إبراء ذممهم. وهذا شيء جيد، ولكنه يتعلق بصحوة ضمير المسؤول ورغبته الصادقة في إبراء ذمته وتطهير نفسه. أما في حالة من بقي ضميره نائماً ولم ينتابه هذا الإحساس، المنقذ لنفسه، فهو حر طليق يستمتع بما استحوذ عليه من أموال. وهذا - في رأيي - حال الأغلبية ممن استباحوا المال العام. وهنا أطرح سؤالاً: لماذا تنتظر الجهات الرقابية عودة الحياة لضمائر بعض المسؤولين الميتة؟ أليس من الواجب إخضاع المسؤول للمساءلة متى ما تبين للدولة تقصيره أو اختلاسه سواء كان على رأس العمل أو لم يكن. ويبقى المأخذ على الإجراء الذي اتخذته الدولة من خلال الأمر السامي (آنف الذكر) أنه يعمل على تحفيز ذوي الضمائر الحية في إعادة ما في ذممهم. وإهمال أصحاب الضمائر الميتة وهم الأخطر على اقتصاد البلد ونشر الفساد، وهم أيضاً الغالبية العظمى والأكثر تنفيذاً وسلطة. إن من استفاق ضميره من المسؤولين وأعاد ما في ذمته، في الغالب يكون نتيجة توبة صادقة سبقت الإجراء الحكومي وليس بسببه. أما الآخرون الذين ماتت ضمائرهم ولم يتجاوبوا مع نداء الدولة، فهم الأولى بالمحاسبة والمساءلة.
ختاماً.. علينا أن نعترف ونُقر، أن من أسباب صعوبة كشف ما في ذمم المسؤولين يعود إلى ثقافة مجتمعنا. أقصد بذلك ثقافة الهبات والعطاءات والمنح التي تقدم لبعض المسؤولين. الأمر الذي يُصعِّب من معرفة حقيقة مصدر أموالهم بشكل كامل ودقيق. لأن طبيعة هذه العطاءات لا تخضع لأدنى المعايير التنظيمية وتغيب عنها الشفافية. قبل أعوام عدة وفي مقابلة تلفزيونية من لندن سُئل مسؤول سعودي سابق عن مصدر ثروته التي لا تعد ولا تحصى، أجاب ببساطة: غالبيتها منح وهبات عندما كنت على رأس العمل!!
أنا على يقين أن محاربة الفساد سوف يكون له عوائد ومكاسب مالية عظيمة على الوطن، وخلق عدالة أكثر في توزيع الثروة، ولن يتأتى ذلك إلا من خلال تفعيل الجانب الرقابي والتأديبي في آن واحد، وهذا ما نراه ونلمسه من توجه الدولة في السنوات الأخيرة. أسأل الله أن يديم علينا نعمته.
غسان إبراهيم العواجي - محامي
Ghassan@alsulaimalawaji.com