كان الشعر منذ القدم ولا يزال يتبوأ مكانة عالية في حياة العرب باعتباره الوسيلة الأدبية الأكثر انتشاراً وتأثيراً في نفس الإنسان العربي المتذوقة لجماليات الحرف ومدلولات الكلمة العربية ومعاني الشعر ورسالته للمجتمعات العربية للمحافظة على التراث العربي من ناحية والتأكيد على المفاهيم الدينية والثقافية التي أفرزت عبر التاريخ تلك الشمائل والصفات الكريمة والأخلاق الرفيعة في المجتمع العربي.
ولكونه يحظى بالاحترام والقبول كغيره من الفنون الأدبية فقد كان من الطبيعي أن ينهض الشعر بتلك المهمة, بأن يكون ممثلاً وراعياً للخطاب الأدبي الحافل بالقواعد الأخلاقية والمثل العليا التي يسعى العربي إلى التمثل بها والاعتماد عليها باعتبارها ركيزة أساسية للحياة التي خلقه الله فيها.
ومنذ عصور ما قبل الإسلام لا يزال العرب في الجزيرة العربية ينظمون الشعر الذي يحث على التمسك بالقيم العربية الأصيلة النابعة من فطرتهم السليمة الأكثر تقبلاً للحق ورفضاً للباطل بكل أشكاله. ومع مرور الزمن نجد أن الشعراء العرب قد ساهموا تلقائياً في تكريس وإبراز المفاهيم الخاصة بثقافة الإنسان العربي في الجزيرة العربية حيث تشكلت وانطلقت هذه الثقافة من شبه الجزيرة العربية لتمتد إلى فضاء أوسع في عموم البلاد العربية بحيث أفرزت لنا تلك السمات العامة لثقافة ابن الصحراء. وقد تبلورت هذه الثقافة الخاصة في قصائد الشعراء من خلال الحث على اتباع الصفات الحميدة للمسلمين الأوائل، ومن خلال التأكيد بالمحافظة على العادات والتقاليد المتوارثة جيلاً بعد جيل.
ويعد إكرام الضيف من أبرز تلك السمات العامة لثقافة العرب، إذ يلاحظ منذ القدم اهتمام الإنسان في شبه الجزيرة العربية باستضافة وإكرام الضيف وعابر السبيل وتقديم القهوة العربية لهم كرمز للكرم والتقدير والاجلال.
غير أن إكرام الضيف لا يكون في إطعام الطعام وكثرته فحسب وإنما يكون في بشاشة الوجه وطيب الكلام كذلك. ونلاحظ بعضاً من تلك الصفات الحميدة متمثلة في شهامة الرجل العربي عندما يتخذ موقفاً يعبر من خلاله عن شهامته في تقديم يد العون والمساعدة لمن هم في حاجة لوقفة حاسمة في أوقات الشدة حينما يبذل المساعي الطيبة لحل خلاف أو قضاء دين أو غيره.
يقول الشاعر الخزاعي في إكرام الضيف:
الله يعلم أنني ما سرّني
شئٌ كطارقةِ الضيوفِ النُّزُّلِ
مازلتُ بالتّرحيبِ حتى خِلتُني
ضيفاً له والضيفُ ربّ المنزلِ
وقديماً قال الشاعر أبو الطيب المتنبي:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته
وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
وقال أيضاً:
وكل أمرئٍ يولي الجميل محبّبٌ
وكل مكان يُنبتُ العزّ طيّبُ
وقال الحطيئة:
إن الرسول لنور يستضاء به
مهنّدٌ من سيوف الله مسلول
لا يخفى أن العربي والعرب لم يكونوا أقل شأناً من غيرهم اتصافاً بالشمائل والصفات الكريمة والأخلاق الرفيعة وهم الأفضل من غيرهم في شدة بأسهم وفروسية أخلاقهم فضلاً عن كونهم أسرع الناس قبولاً للحق لسلامة طباعهم وبرائتهم من ذميم الأخلاق. وبالتالي فإن هذه المؤهلات الإنسانية للعرب هي ما جعلهم خير امة أخرجت للناس ليختارهم الله سبحانه وتعالى لأن تنزل عليهم رسالة الإسلام دون غيرهم من الأمم.
ولما كانت النفس تتصف بالاستعصاء أنفة وإباءً, وتستصعب أن يعظها أحد غيرها، فقد جاء الشعر ليقوم بدور الدعم والمساندة لجهود الدعاة والوعاظ والمصلحين, وذلك لقدرته على استمالة النفس العربية لتذكيرها بكرم أصلها وجميل محاسنها.
وكأن من وظيفة الشعر أن يذكر الكريم بكرامة الأصل وما يقتضيه ذلك من خلق أو موقف. ومن هنا جاء قول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: «أفضلُ صناعات الرَّجل الأبيات من الشعر, يقدمها في حاجاته, يستعطف بها قلب اللئيم», (العقد الفريد - ابن عبد ربه الأندلسي).
وقد حظي الشعر بهذا القبول الاجتماعي لسرعته في التأثير على الوجدان ولكونه أقرب الأساليب العربية إلى الصدق وأوفاها بحمل التجارب الإنسانية واختزالها. كما ولم يقلل الإسلام من دور الشعر في التثقيف والتهذيب بل أقره على ذلك مادام داعيا إلى الخير والتقى, محذراً من الدعوات الكافرة ومترفعاً عن المجون وتزيين القبيح.
كان الرسول الكريم يقول عندما يستمع إلى الرائع من الشعر أو النثر: «إن من الشعر لحكمة, وإن من البيان لسحرا»..
هذه النزعة تجاه توظيف الشعر العربي ليكون مساهماً فاعلاً في تشكيل مفاهيم اجتماعية من الثقافة العربية الأصيلة إنما يكمن الدافع من ورائها في إبراز مكانة العرب باعتبارهم خير أمة أخرجت للناس، ثم إيجاد موقع مميز للهوية الثقافية العربية على خارطة الثقافات العالمية بشكل عام.. ومن هنا أرى أن الشعراء تمكنوا -بفضل فصاحتهم اللغوية وموهبتهم الشعرية- من المشاركة في صنع ثقافة خاصة ومميزة لعرب الجزيرة العربية خاصة والبلاد العربية بشكل عام.
بقي أن نقول إن الشعر الذي يختص بنقل مآثر العرب في الجزيرة العربية وإبراز صفات المجتمع العربي المسلم إنما هو مجال أدبي جدير بالدراسة والاهتمام لأجل فهمه ونقله إلى جيل الأحفاد ليستفيد منه ويتشرب بثقافة الآباء والأجداد.
- منصور ماجد الذيابي