تقديم المترجم: نواصل مع ترجمتنا لهذه الدراسة النوعية الفريدة للدكتور يارون أيالون، أستاذ مساعد في التاريخ، جامعة بول ستيت، مدينة منسي، ولاية إنديانا، الولايات المتحدة الأمريكية. وهو مؤلف كتاب «الكوارث الطبيعية في الإمبراطورية العثمانية: الطاعون والمجاعة ومصائب أخرى» ، قسم النشر بجامعة ولاية إنديانا، عام 2014، 240 صفحة. ونشرت الورقة في ديسمبر 2009:
ويختتم حسين مقدمته لكتاب «في الأدب الجاهلي» عبر التصدي مباشرة للعلماء الذين ناهضوا وحظروا عمله. فأكثر ما تحتاجه دراسة الأدب، كما يقول، هو «حرية التعبير»؛ فالحرية فقط «ستمكن المرء من أن ينظر إلى نفسه كأنه كائن موجود ووحدة مستقلة ليس مديناً بحياته لعلوم أخرى أو فنون أخرى أو عوامل اجتماعية وسياسية ودينية أخرى». ويضيف حسين: «أريد أن يظفر الأدب بهذه الحرية التي تمكنه من أن يُدرس لنفسه، التي تمكنه من أن يكون غاية لا وسيلة، فالأدب عندنا وسيلة حتى الآن، أو قل إن الأدب عند الذين يُعلمونه ويحتكرونه وسيلة منذ كان عصر الجمود العقلي والسياسي، بل قل إن اللغة كلها وما يتصل بها من علوم وآداب وفنون لا تزال عندنا وسيلة لا تُدرس لنفسها، وإنما تُدرس من حيث هي سبيل إلى تحقيق غرض آخر، وهي من هذه الناحية مقدسة، وهي من هذه الناحية مبتذلة. وقد يكون من الغريب أن تكون اللغة والآداب مقدسة ومبتذلة في وقت واحد. ولكنها في حقيقة الأمر مقدسة ومبتذلة: مقدسة لأنها لغة القرآن والدين، وهي تُدرس في رأي أصحاب الأدب القديم من حيث هي وسيلة إلى فهم القرآن والدين. ومبتذلة لأنها لا تُدرس في نفسها، ولأن درسها إضافي، ولأن الاستغناء عنها قد كان يكون ميسوراً لو أمكن أن يفهم القرآن والحديث من دونها، ولأن الفقه خير منها وأشرف، ولأن التوحيد خير منها وأشرف؛ لأن هذه العلوم الدينية تُدرس لنفسها، تدرس لأن الله أخذ الناس بدرسها والعلم بها، تدرس لأنها تحقق منافع الناس في الدنيا والآخرة. اللغة والآداب إذاً، مقدسة ومبتذلة. وهي من حيث هي مقدسة لا تستطيع أن تخضع للبحث العلمي الصحيح. وكيف تريد أن تُخضعها للبحث العلمي الصحيح والبحث العلمي الصحيح قد يستلزم النقد والتكذيب والإنكار، والشك على أقل تقدير؟» انتهى كلام طه حسين. (59). وبالنسبة إلى حسين، كان الجواب واضحاً: «أظن أنك استطعت الآن أن توافقني على أن الحرية بهذا المعنى شرط أساسي لنشأة التاريخ الأدبي في لغتنا العربية؛ فأنا أريد أن أَدرس تاريخ الآداب في حرية وشرف، كما يَدرس صاحب العلم الطبيعي علم الحيوان والنبات، لا أخشى في هذا الدرس أي سلطان. وأنا أريد أن يكون شأن اللغة والآداب شأن العلوم التي ظفرت بحريتها واستقلت بها من قبل، والتي اعترفت لها كل السلطات بحقها في الحرية والاستقلال، أتظن أن في مصر مثلاً سلطة تستطيع أن تعرض لكلية الطب أو كلية العلوم وما يدرس فيهما من مذاهب التطووالنشوء والارتقاء وما إلى ذلك؟ كلا!»، انتهى كلام طه حسين. إذن، فالحرية ضرورية للغة كما هو الحال بالنسبة إلى الحقول الأخرى المستقلة بالفعل في مصر، مثل الطب. ولذلك فإن حسين الباحث يطالب بحرية البحث نفسها التي يتمتع بها نظراؤه الأطباء. (60) ويضيف حسين «لأن هذه العلوم قد استقلت وحملت السلطات في العالم كله على أن تعترف لها بالاستقلال، لأن هذه العلوم تُدرس لنفسها وقد أرغم الناس جميعاً على أي يعترفوا لها بأنها تُدرس من حيث هي غايات لا وسائل. وقد وصل الأدب في أوروبا الآن إلى هذه المنزلة، ووصل بعد جهد ومشقة، ولم يصل إلا في هذا العصر الأخير، ولكنه وصل بالفعل وأصبح يُدرس لنفسه، وأصبح يستمتع من الحرية بمثل ما تستمتع به الطبيعة والكيمياء، وأصبح خصومه لا يحاربونه بالسلاح الإداري أو القضائي كما كانوا يفعلون من قبل، وإنما يحاربونه بالسلاح العلمي الأدبي الخالص، فيقيمون الحجة ويتجادلون بما يلائم مزاجهم من قوة أو ضعف ومن لين أو عنف. على هذا الشرط وحده يستطيع الأدب العربي أن يحيا حياة ملائمة لحاجات العصر الذي نعيش فيه من الوجهة العلمية والفنية، وإلا فمالي أدرس الأدب لأعيد ما قاله القدماء؟ ولم لا يُكتفى بنشر ما قال القدماء؟ ومالي أدرس الأدب لأقصر حياتي على مدح أهل السنة وذم المعتزلة والشيعة والخوارج وليس لي في هذا كله شأن ولا منفعة ولا غاية علمية؟ ومن الذي يستطيع أن يكلفني أن أدرس الأدب لأكون مبشراً بالإسلام أو هادماً للإلحاد وأنا لا أريد أن أبشر ولا أريد أن أناقش شؤون الملحدين وأنا أكتفي من هذا كله بما بيني وبين الله من حظ ديني؟ تستطيع أن تصدقني فأنا أوثر أي صناعة من الصناعات مهما تكن مهينة مزدراة على صناعة الأدب كما يفهمها هؤلاء الذين يُدرسون الأدب من حيث هو وسيلة لا أكثر ولا أقل. وهب أن السلطة السياسية أخذت المؤرخين بأن يضعوا تاريخهم تحت تصرف السياسة فلا يكتبون ولا يدرسون إلا إذا كان في ما يكتبون أو يدرسون تأييداً للسلطة السياسية أو نحواً من أنحاء تصرفها. أليس المؤرخون جميعاً، إن كانوا خليقين بهذا الاسم، يؤثرون أن يبيعوا الفول أو الكراث على أن يكونوا أدوات في أيدي السياسة يفسدون لها العلم والأخلاق؟! الأدب في حاجة إذاً إلى هذه الحرية، وهو في حاجة إلى ألا يعتبر علماً دينياً ولا وسيلة دينية، وهو في حاجة إلى أن يتحرر من هذا التقديس، هو في حاجة إلى أن يكون كغيره من العلوم قادراً على أن يضع للبحث والنقد والتحليل والشك والرفض والإنكار، لأن هذه الأشياء كلها هي الأشياء الخصبة حقاً. واللغة العربية في حاجة إلى أن تتحلل من التقديس، هي في حاجة إلى أن تخضع لعمل الباحثين كما تخضع المادة لتجار العلماء. يوم يتحرر الأدب من هذه التبعية ويوم تتحلل اللغة من هذا التقديس يستقيم الأدب حقاً ويؤتي ثمراً قيماً لذيذاً حقاً. أتذكر القرون الوسطى حين لم يكن يباح للناس تشريح الجسم الإنساني لأنه كان مقدساً لا ينبغي أن يمس بما يهينه؟ ثم أتذكر ماذا كان تأثير ذلك في علوم الطب وفي فنون التصوير والتمثيل؟ ثم أتذكر يوم أبيح للناس أن يدرسوا جسم الإنسان بالتشريح ويخضعوه لهذا الدرس الرقيق؟ أتذكر ماذا أحدث ذلك من الأثر في العلوم الطبيعية وفي الفنون الطبية، وكيف نشأ عن ذلك أن استقامت فنون التصوير والتمثيل استقامة صحيحة منتجة؟ هذا بعينه شأن اللغة والأدب: لن توجد العلوم اللغوية الأدبية ولن تستقيم فنون الأدب إلا يوم تتحلل اللغة والأدب من التقديس ويباح لنا أن نخضعها للبحث كما تخضع المادة لتجارب العلماء». (61) انتهى كلام طه حسين.
يتبع
ترجمة وتعليق/ د. حمد العيسى - الدار البيضاء
hamad.aleisa@gmail.com