د. سلطان سعد القحطاني
تحدثت في المقال السابق عن نشأة الصحافة الأدبية، وكل الصحف في العالم -بالمناسبة- بدأت أدبية قبل أن تكون عامة، وهذا ما أكدته الدراسات الأدبية الصحفية. والصحافة في المملكة العربية السعودية لم تكن بدعاً عن غيرها، فكتّابها ومحرروها كانوا من الأدباء، فعبد القدوس الأنصاري، وأحمد السباعي، ومحمد علي مغربي، ومحمد حسن عواد، وسعد البواردي، وعبد الله الشباط، وغيرهم كانوا أدباء قبل أن يكونوا صحفيين، وكذلك أدباء مصر وبلاد الشام. واليوم سنكمل الحديث عما بدأناه في العدد السابق، فالصحافة الأدبية السعودية قامت على أنقاض الصحافة السابقة وطورتها، وزاد عدد كتابها والعاملين عليها من الفنيين الذين تدربوا في مصر على صناعة الصحافة بشكل عام، وعادوا ليمارسوا الدور المناط بهم في الدولتين السابقتين،على ضعف في المنتج الصحفي الأدبي من حيث اللغة والإسلوب اللغوي. لذلك لابد للدارس من أخذ الطريق من أوله للوصول إلى نشأة الصحافة السعودية بما مُهد لها من قبل، وإن كان بعض الدارسين قد أخذها من بداية الدولة السعودية الثالثة (عهد الملك
عبد العزيز) فإنه بهذه الطريقة قد أخذ تطورها ولم تكن دراسته مستوفية شرط البحث العلمي وحق الآخرين في نشأتها، إذا استثنينا دراسة الدكتور محمد عبد الرحمن الشامخ عن الصحافة في الحجاز في العهد العثماني، والتعليم في مكة والمدينة، وما تعلق منه بدور الصحافة في ذلك العهد. وعندما نعود إلى ظهور هذا الفن العالمي الذي ظهر في أوروبا في القرن الثامن عشر، عصر التنوير، فسنجد الصحافة لعبت دوراً مهماً في النهضة الأوروبية من تغطية للأخبار ونشر للثقافة، لكنها لعبت دوراً أكبر في الحرب العالمية الأولى (1914) وتطورت لتلعب أدواراً أكبر في الحرب العالمية الثانية، حيث أصبح لها لغتها ومصطلحاتها في هذه الحرب الكونية، كما حددها بعض الباحثين في لغة الصحافة، مثل الدكتور كمال محمد علي بشر في دراسته للصحافة في الحرب العالمية الأولى وما لعبته في احتلال فلسطين، ولأنّ ما يهمنا في هذا الموضوع الطويل العريض، هو الصحافة التركية التي انبثقت عنها الصحافتان (الهاشمية و السعودية) فكان ظهور الصحافة التركية قد جاء متأخراً بالنسبة لجارتها أوروبا التي ظهرت فيها الصحافة منذ القرن السابع عشر، ونجدها متقدمة على البلاد العربية التي تسيطر على معظمها، باسم الإمبراطورية العثمانية، ما عدا بعض الصحف التي ظهرت ملازمة لحملة نابليون بونابرت إلى مصر وتوقفت بعد رحيله؛ فقد ظهرت أول صحبفة في تركيا في عهد السلطان محمود الثاني (1785-1839) وهي صحيفة اقتصادية بعنوان (تكفيمي نيكاي) وتعني التقويم التجاري، صدر عددها الأول في 11نوفمبر1831، وقد أدركت تركيا أهمية الصحافة ودورها في نشر الأخبار بين ولاياتها ومركز الخلافة، وتوفر آلة الطباعة، فقد رغبت في تأسيس بعض المطابع في الولايات المهمة، كصنعاء ومكة المكرمة، وبعض الولايات، وأسست أول مطبعة في عهد الوالي عثمان نوري باشا عام 1883م، في مكة المكرمة، وصدرت أول صحيفة طبعت في هذه المطبعة بعد تطورها، من يدوية إلى آلية، بعنوان( حجاز) صدر عددها الأول في 3-11-1908، إبان صدور الدستور العثماني الثاني في عهد السلطان عبد الحميد الثاني (1842-1918) الذي أولى اهتماماً شديداً بالحرمين الشريفين، وكانت هذه الصحيفة وما تلاها من صحف، مثل( شمس حقيقت ) وتعني:شمس الحقيقة، وغيرها تدار بأيد عثمانية، ابتداء من مديرها، إبراهيم أفندي، إلى أصغر عامل فيها، وتصدر باللغة التركية، ثم أصبحت بعض صفحاتها باللغة العربية الركيك، وهي لسان حال الأحزاب التركية التي ظهرت في أواخر العهد التركي المتردي، الذي أدرك السلطان عبد الحميد الثاني تفكك الإمبراطورية المتهالكة وسقوط عدد من ولاياتها في أوروبا وظهور الأقليات التركية المتطرفة من داخلها، فنادى بالجامعة الإسلامية كآخر ورقة يمكنه اللعب بها، وعقد لهذه الجامعة المؤتمرات، وصرف الأموال الطائلة على سكة حديد الحجاز وتطوير الحرمين الشريفين، ومكافحة الوهابية ( على حد تعبير كتّابه) الذين استعملهم وأرسلهم إلى عدد كبير من البلاد التي يسكنها المسلمون، وكانت هذه الصحافة تدافع عن الإمبراطورية بشتى الوسائل، ولا شك أن أبناء مكة المكرمة ومدن الحجاز، إن جاز لنا أن نطلق عليها هذا المسمى مجازاً وليس حقيقة، وأعني بها مكة والمدينة المنورة وجدة، وأرسلت الحكومة التركية مجموعة من الشباب العرب إلى مصر للتدرب على الطباعة وعقدت لهم إدارة المطبعة دورات في مصر، للتدرب على الطباعة المتاحة بكل أصنافها، في مطبعة بولاق العريقة في القاهرة، فعادوا لممارسة المهنة بكل جدية واقتدار. وكانت هذه الصحف، كما ذكرت تتطاول على الثقافة العربية وتقلل من قيمة أهلها، مما خلق نفوراً شديداً عند مثقفي هذا الجزء من الوطن العربي، وكان عندهم الاستعداد للرد عليهم من خلال صحافة مضادة، لكن حاكم مكة من قبل الإمبراطورية ( الحسين بن علي) كان يداري الأمور إلى أن وصل هذا الاستخفاف بشخصه وذاته، فسمح لعدد من الشباب في جدة بإنشاء صحيفة تكون مضادة لتلك الصحف، وهي صحيفة (الإصلاح الحجازي) صدر عددها الأول في 17-5-1909، أي بعد صدور أول عدد من جريدة شمس حقيقت بثلاثة أشهر بالتمام، وإن كنا لا ننكر ما كانت البلاد العربية تتخبط فيه من الجهل والتخلف إلا أن الصورة لم تكن قاتمة بالشكل الذي صورته تلك الصحافة، فمنطقة الحرمين الشريفين لم تنقطع عن العالم المتحضر، سواء من أبنائها أو ممن جاءها مهاجراً، وكذلك بقية المناطق الحضارية، وجدة مدينة ساحلية يفد إليها حلق كثير من أنحاء العالم بثقافاتهم، والأحساء تزخر بمدارسها وعلمائها وتعدديتها الاجتماعية. وهذا ما أكده كثير من الباحثين المنصفين للحضارة العربية، من العرب وغيرهم من الباحثين، فقد صورت الأحزاب التي ظهرت في تركيا وسببت لها العداء والحرج مع سكان ولاياتها، وشجعت الدول العظمى على انهيارها وتقسيم إمبراطوريتها، مثل حزب تركيا الفتاة، والاتحاد والترقي وغيرها،إضافة إلى نقمة العرب علي بض أساليب التعامل التي كانت تتم من بعض الولاة وبُعد المركز عن الأطراف مما جعلهم يعيثون في الأرض فساداً بدون رقيب ولا حسيب. وبالرغم مما كانت تنشره هذه الصحف ضد الثقافة العربية، فقد استفاد منها أبناء مكة والمدينة وجدة ومن يفد إليها من أطراف الجزيرة العربية، وكانوا جاهزين لتولي الصحافة من بعد رحيل العثمانيين عن الحجاز، وصارت هذه الصحف الجديدة وريثة للصحافة العثمانية وعلى استعداد لتغيير مسارها، ثقافياً ولغوياً.