قاسم حول
أغلب الذاكرات العربية السينمائية تبعثرت أو تلفت أو اضمحلت وهي في طريقها إلى الموت كمادة سليلويدية، تلاشت وفقدت نوعيتها، وأظن انها بقايا رفات. بعض القنوات الفضائية إمتلكت بعض الأفلام الروائية فقط دون الوثائقية ودون الجرائد السينمائية، وصارت تلك القنوات تعرضها في برامج الأفلام والسينما. وبسبب خصوصية الذاكرة الفلسطينية، فإن بعض المؤسسات العالمية قدمت الرعاية لهذه الذاكرة ومنها المتحف الألماني للسينما والأرشيف الإيطالي للأفلام. حيث تحتفظ هذه المؤسسات بنسخ من الأفلام الوثائقية الفلسطينية وتخضع تلك الأفلام للرعاية والترتيش وحتى النقل على فورمات رقمية حديثة.
في الآونة الأخيرة ورغم ما يعانيه الشعب الفلسطيني تحت الإحتلال ومحاولة محو الذاكرة الفلسطينية إلا أن السلطة الفلسطينية بدأت الاهتمام بالذاكرة الفلسطينية، وقد كلفت بعض الشخصيات السينمائية العربية وغير العربية بوضع بروتوكول للذاكرة الفلسطينية ومحاولة جمع نسخ من هذه الأفلام ورعايتها في مؤسسة التلفزيون الفلسطيني.
إن المنظمة العربية للثقافة «اليكسو» مسؤولة ليس فقط عن رعاية الذاكرة الفلسطينية بل رعاية الذاكرة العربية برمتها، وبحكم علاقتها بمنظمة الثقافة التابعة للأمم المتحدة فإنها تستطيع أن تقدم الكثير للذاكرة العربية المرئية.
من البلدان العربية التي لا تزال ترعى ذاكرتها المرئية تونس والمغرب، ونسبيا الجزائر، حيث لا تزال الكثير من المواد الفلمية بشقها السالب محفوظة في المخابر الفرنسية، والدولة الجزائرية ما تزال تطالب بهذه الأصول السينمائية في محاولة لجمعها ومركزتها في مؤسسة الأرشيف الجزائرية.
أما الذاكرة العراقية «المرئية» فتكاد تكون تالفة بحكم عدم توفر مؤسسة نظامية للذاكرة تخضع للشروط العلمية لحفظ الأفلام، بل أنها وخلال عودتي للعراق وجدت ملايين الأمتار بل وعشرات الملايين ومئات الملايين من الأمتار الفلمية السليلويدية بشقيها السالب والموجب موجودة ومتروكة تحت الأنقاض منذ ثمان سنوات وهي تحت الأمطار والأتربة والأطيان شتاء وتحت درجة حرارة فوق الخمسين مئوية صيفا، وأغلب الظن أن الصورة فيها مضمحلة وهي بقايا صورة. ما دفعني ذلك للاحتجاج وبصوت عال وتمكنت من نقلها إلى إحدى البنايات وهذا ليس حلا بل هو كمن ينقذ الغريق من تحت الماء ولكن الغريق ميت. فالدولة مشغولة للأسف بالنهب وذاكرة الشعب العراقي هي آخر ما تفكر فيه. إن حفظ الوثيقة السينمائية المرئية تحتاج لشروط علمية، أن تحفظ وفق درجة حرارة ثابتة تسعة عشر درجة مئوية وأن تخضع للترميم الدائم وينبغي أن تحفظ تلك الذاكرة المرئية بمكان بعيد المناطق الرطبة، في مناطق جافة وأن تكون محمية بأجهزة من اللايزر تسحب الغبار الذي لا يرى بالعين. وكل هذه المواصفات غائبة في العراق، في دولة تأتي الكهرباء للمواطنين ساعتين في اليوم فكيف يمكن حفظ الذاكرة. كان ينبغي أن تحول ومنذ زمن بعيد هذه الأفلام إلى الذاكرة الرقمية، لكن ذلك لم يحصل، ومثل ما حصل في العراق حصل في ليبيا. لكن الأرشيف الليبي وقبل سقوط النظام الجماهيري وباتفاق مع مؤسسة السينما التونسية «كوينتا» قد تم تحويلها إلى ذاكرة رقمية.
بالنسبة للذاكرة السينمائية في اليمن، فإني ساعدت اليمنيين في سنوات السبعينات في نقل ذاكرتهم المرئية إلى بيروت وقمت بترميمها وطبعها على أفلام سالبة لأن كل الذاكرة المرئية التي خلفها البريطانيون ولم يتمكنوا من سحبها عندما غادروا اليمن كانت تصور بالأفلام «الريفرسل» الموجبة بدون أصول سالبة. وقد أطلعت على الأرشيف اليمني وكان خطيراً، وأعدتها لليمن في تلك الحقبة. أما الذاكرة السينمائية المصرية فهي الأكبر لأن الصورة المتحركة دخلت مصر في بداية القرن العشرين، وبسبب التحولات السياسية والأزمة الإقتصادية المصرية فإن الذاكرة المرئية تبعثرت ولم تتمركز في أرشيف مركزي.
أن أوربا والغرب عموما، يولي هذه الذاكرة إهتماما غير عادي. وقبل فترة عثروا في هولندا على علبة مصورة طولها أحد عشر دقيقة كانت على ما يبدو فقدت من مصورها خلال الحرب العالمية الثانية ودخول القوات الألمانية إلى هولندا، فعملت تلك العلبة بعد تحميضها وإظهارها قصة كانت موضوع حديث الناس والإعلام وأضيفت تلك الدقائق إلى مؤسسة الذاكرة الهولندية فيما البلدان العربية توجد بحوزتها مئات الملايين من الساعات الفلمية وهي ليست موضع اهتمام أحد. في خضم هذا الواقع بدأ الفلسطينيون التفكير بذاكرتهم ووضع أسس لحفظها، وسوف تطرح في مهرجانات السينما موضوعة الذاكرة السينمائية الفلسطينية سواء حقبة المقاومة الفلسطينية في لبنان ولعشر سنوات أو فترة الثلاثينات .. وكانت أول جريدة سينمائية مصورة أصدرها السينمائي الفلسطيني إبراهيم حسن سرحان عام 1935 وهي عدد خاص عن زيارة ولي عهد المملكة إلى فلسطين بأمر من الملك عبد العزيز آل سعود، وعرضت الجريدة السينمائية الفلسطينية في إحدى دور السينما في فلسطين، ويقوم السينمائي الفلسطيني مهند صلاحات الآن بعمل فيلم عن الذاكرة السينمائية الفلسطينية! مسؤولية الذاكرة السينمائية العربية المرئية هو مشروع خطير ولكنه لم يحظ باهتمام منظمة الثقافة العربية الجهة الوحيدة القادرة على إثارة الموضوع دوليا عبر منظمة العلوم الثقافة «اليونسكو» التابعة للأمم المتحدة.