لا يشك دارسو الحضارات في منطقتنا بأن الجزيرة العربية هي مهد الحضارات ومُنطلق الهجرات على مر العصور والأزمنة، فبداية المستوطنات المدنية في الجزيرة العربية قد يكون ظهر أولاً على ساحل الخليج العربي وضفافه، فبَوَادِرُ الاستيطان البشري ظهرت منذ فترة طويلة موغلة في القدم، تعود إلى الحقب الحجرية الأولى، وأشرقت معالم الاستيطان بشكل أكبر في الفترات الزمنية اللاحقة، وبرز ذلك جليًّا من خلال آثار الاستيطان المنتشرة على أطراف الخليج العربي.
لعل من أبرز تلك الحضارات وأقدمها هي حضارات العبيد نسبة إلى تل العبيد الموجود في العراق. ومن عجائب المصادفات أن هذه الحضارة نُسبت لبلاد الرافدين رغم أنَّ أقدم المكتشفات وُجدت في جزيرة العرب وعلى ضفاف الخليج العربي؛ وهذا ما دعا عددًا من العلماء وعلماء الآثار إلى تبني نظرية علمية بنسبة هذه الحضارة إلى موطنها الأصلي، وهو الجزيرة العربية، إلا أن هذا المثال ليس الشاذ من القاعدة بل هو الأقرب للتعميم؛ إذ نجد أنَّ عددًا من الحضارات القديمة قد نُسبت إلى بلاد مُجاورة لنا، ولعل الملام على عوامه بهتان بل هو علة ثقافية؛ فالتدليل هو الطريق للوصول للحق، أما الادعاء بلا حجة فهو الجهالة. وخير بيّنة على ذلك المثل القديم القائل (خطأ شائع خير من صواب مهجور). وهذا بيت القصيد في هذا المقال. إذن، فلنحيِ من المهجور صحيحه، ولنبرزه، ونُعِدْه لسياق المعرفة؛ فذاك درب العلماء، وواجبهم.. والأمثلة على ذلك كثيرة، ولنطرقها بتسلسل تاريخي؛ لعلنا نهتدي للحق، وهو مقصدنا.
حضارة أخرى أشرق نورها على مملكة الحضارات، قامت في المنطقة الشرقية، هي دلمون، ذلك المكان الذي تشاده علماء الجغرافيا وكتّاب الأدب بين المكان والأسطورة, الواقعة على الساحل الغربي للخليج من الكويت شمالاً إلى أقصى عُمان جنوباً، وكان أهم حواضرها البحرين والقطيف والهفوف وفيلكة، إلا أنَّ القارئ الكريم سيلحظ أن التسابق بين البحرين والكويت للتنقيب ونشر البحوث.. ومحاولة الربط بينها وبين تاريخ هذه الدول قائم، وهذا حق لا أنكره عليهم، بل على النقيض، ولكني أحث علماءنا ومؤسساتنا البحثية للمسابقة في دروب البحث والاكتشاف في جزء آخر من بلادنا؛ ففي الشمال الغربي نجد آثار حضارات لعبت دورًا كبيرًا في سياق التاريخ، ومن بينها حضارة الأنباط، وهي حضارة عريقة، عاشت على أرضنا، وبنت وخلفت شواهد على عظمتها، ولكننا ننفصل عنها مرة أخرى، وننسبها لدول أخرى. ويستمر الانفصال عن حضارات الجزيرة العربية، ولا أدلّ من ذلك إلا هجرة الفينيقيين من الخليج إلى حوض البحر الأبيض المتوسط. ولو عددنا تلك الحضارات (لاحتجنا إلى كتب وأطروحات علمية)، ولأغضبنا محرري هذه الصحيفة؛ لذلك سأكتفي بما ذكرت سابقًا؛ لعله أوضح الفكرة وأبانها. وليس المقصود في الأخير التفاخر بهذه الحضارات، وإنما المغزى هو الحث على البحث العلمي ونشر الدراسات العلمية؛ إذ يجب أن يُعاد كتابة تاريخ المنطقة بأقلام أهل الجزيرة وعلمائها لإعادة الحق إلى أهله.
ولا يشتمل التقصير على جانب التنقيب والبحث فقط بل إن جانبًا آخر من التقصير يظهر جليًّا من خلال الدور الإعلامي المتواضع في هذا المجال. ونشير أخيرًا إلى أنَّ تراثنا ليس مواقع يُزاح عنها التراب والرمل، وتسوّر، ومن ثم تهمل، بل إنه تاريخ شعوب عاشت على أرض الجزيرة آلاف السنين، والاهتمام به هو الطريق إلى تنمية الحس الوطني؛ فالوطنيَّة هذه الكلمة بِعِظَمِها ليست مادة تدرَّس في المناهج، بل هي تاريخ يسقى للطفل، ويشرب من مَعِينِه الشاب، ويعتز به الكهل، ومن ثمَّ يغرس روح الانتماء لدى الجميع.. وهذا سيؤدي بنا في نهاية المطاف إلى الاهتمام بآثارنا، والمحافظة عليها دون الحاجة إلى إقامة الأسوار المحيطة بتلك الآثار التي توحي بالبعد والقبح؛ فالمواطن هو من سيحمي تلك الكنوز بانتمائه لها لا بخوفه من عقوبة الاقتراب منها. ونقول ختامًا: إنَّ الاهتمام بالتراث ليس ترفًا بل هو حاجة واحتياج؛ لنصحح مسار نهضتنا الحديث.
- د. الوليد العيدان
@aleidanwa1