د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
اكتسبتْ عملية الاختيار أهَميَّةً كبرى في الدرس الأدبي والنقدي، وقد أدرك بعض العلماء حجم هذه الأهَميَّة، وأكَّدوا صعوبتها، من خلال بيان ما وقع فيه بعض الأعلام من التخليط فيما راموه من اختيار الكلام، مما حدا بأبي هلال العسكري أن يضع كتابه (الصناعتين)، الذي جمع فيه ما يحتاج إليه في صنعة الكلام: نثره وشعره، فبعد أن بيَّن أهَميَّة علم البلاغة، ومعرفة الفصاحة، ذكر طرفاً من فضائل هذا العلم، وفي هذا السياق أوضح أنَّ المرء «إذا أراد أيضاً تصنيف كلامٍ منثور، أو تأليف شعرٍ منظوم، وتَخطَّى هذا العلم، ساء اختياره له، وقبحت آثاره فيه، فأخذ الرديء المرذول، وترك الجيِّد المقبول، فدلَّ على قصور فهمه، وتأخُّر معرفته وعلمه، وقد قيل: اختيار الرجل قطعةٌ من عقله، كما أنَّ شعره قطعةٌ من علمه»، ثم نراه بعد ذلك يذكر نماذج من العلماء الذين أساؤوا في اختياراتِهم؛ سعياً منه إلى تأكيد أهَميَّة هذه القضية، وصعوبتها، وقلَّة مَن يتمكَّن مِن إتقانها.
وعلى كلٍّ فالاختيار قديمٌ عند العرب، فقد اختاروا المعلَّقات على ما سواها، ثُمَّ اختاروا جُملةً من القصائد بعينها، كما في المفضليَّات والأصمعيَّات، ثم كان الاختيار بحسب الموضوعات، وأول مَن بدأه أبو تَمَّام في «الحماسة»، ثم تبعه الآخرون في هذا المنهج، ولم تتوقَّف الاختيارات في العصر الحديث، فلدينا مُختاراتٌ للبارودي، وأخرى لأدونيس، وغيرها، إضافةً إلى كتب تاريخ الأدب العربي التي تقوم دراستها أساساً على اختيار بعض الشعراء المتميِّزين، وتختار نماذج من الشعر لهم أيضاً.
وقد امتدَّ هذا الاهتمام إلى النقد الحديث، فقد أضحى تعريف «الأسلوب» بأنه «اختيار» من التعريفات الشائعة والمعروفة في الدراسات النقدية الحديثة، فقد عُرِّف الأسلوب بأنه «اختيارٌ أو انتقاء، يقوم به المنشئ لسِماتٍ لغويةٍ بعينها، من بين قائمة الاحتمالات المتاحة فِي اللغة»، بل إنَّ معالجة الأسلوب على أنه «اختيار» قد احتلَّت مساحاتٍ واسعةً من مناقشات الدراسة الأسلوبية، إذ شاع فيها أنَّ نظام اللغة يُقدِّم للمبدع إمكاناتٍ هائلة، له أن يستخدمها للتعبير عن حالةٍ واحدةٍ، أو موقفٍ مُعيَّن، وهذا يعني أنَّ للمبدع الحريَّة في اختيار ما يريد، ما دام يخدم رؤيته، وتصوُّره، وموقفه، ولكنَّ هذا الأمر لم يبقَ مُجرَّد عموميَّات، وإنَّما بدت هناك تحديداتٌ لعمليَّة الاختيار في الدراسات الأسلوبية، حفلت كتب النقد الحديث بكلامٍ مُفصَّلٍ حولها.
ومن هنا ينبغي على المؤلف المتميز والباحث الجاد أن يعي أهمية هذه العملية الدقيقة، وأن يولي عناية قصوى باختياراته وانتقاءاته، ولعل السبب الرئيس الذي يمنح الموضوعات قبولاً ويضفي عليها جودة وجدة هو دقة المبدع في الاختيار، وروعته في الانتقاء والإيثار، بل إنَّ ذلك هو سرُّ تميز بعض المؤلفات، والسبب الرئيس وراء تفوق بعض المؤلفين والمبدعين والباحثين.
ومن أهم الصور الفارقة في الاختيار على مستوى المؤلفات والبحوث: اختيار الموضوع، وهو ما أراه يسبب معاناة كبرى للباحثين، إذ يفتقد كثير منهم الأسس الصحيحة التي تمكنهم من اختيار موضوع تتوفر فيه أسباب الجودة وصفات التميز، وهو ما لا يمكن أن يتم دون مخزون ثقافي كبير واطلاع معرفي واسع بالتخصص، وهو ما يجعل كثيراً منهم يخفق في هذا الاختيار، ويقع في فخ موضوعات تقليدية نمطية أكل الزمن عليها وشرب، فلا يقدم جديداً ًولا يضيف مفيداً.
ثم هناك اختيار المدونة إن كان الموضوع قائماً على دراسة مدونة شعرية أو نثرية ونقدها؛ لأن بعض المؤلفين يريد أن يقدم دراسة نقدية لعمل إبداعي دون النظر إلى قوة هذا العمل أو ضعفه، المهم أن يظهر اسمه على الغلاف، وقد يكون في اختيار الأعمال الضعيفة إبداعياً مجاملة لأصحابها، ونوعاً من التطبيل لهم، ومثل هذا يُعد خيانة من الناقد، وفشلاً ذريعاً في اختيار المدونة المدروسة؛ لأن المؤلف والباحث ينبغي أن يعي تماماً أنه ليس كل ما تلفظه المطابع تحت اسم الأعمال الإبداعية يستحق أن يقرأ فضلاً عن أن يحلل وأن يؤلف فيه منتج نقدي، والأدهى حين يُقدَّم فيه رسالة علمية!
وهكذا يمكن أن يُقال في اختيار النصوص المستشهد بها، وفي اختيار الأقوال والآراء، وفي اختيار المنهج وطريقة الدراسة، وفي اختيار الكتب والمؤلفين محل الدراسة، وفي اختيار النماذج من نصوص المدونة، وفي اختيار الفن والموضوع، وفي اختيار الشخصيات والأعمال والجهود، بل إن المتأمل في التأليف وإعداد البحوث يجد أنه قائم في الأساس على الاختيار، وكل تفاوت في الجدة والجودة والتميز بين المؤلفات والبحوث والدراسات النقدية والإبداعية راجع في الحقيقة إلى مستوى حسن الاختيار ودرجة جمال الانتقاء.