الفن بجميع أشكاله هو جزء من العمليّة المعرفيّة. وهو مكون أساسي من مكونات الوعي وبالتالي فهو يسهم في تنمية وإطلاق الطاقات التنموية والإبداعيّة الأخرى.
العمل الفني رافق الإنسان منذ بدايات نشاطه للاستفادة من الطبيعة وتسخير مواردها لصالحة. وكان دور الفن في المجتمعات البدائية هو تطوير أدوات الصيد والمسكن والتواصل بين الأفراد، على شكل تقليد أصوات الحيوانات أو حركة البدن (الرقص) للدلالة على حدث ما، وصولاً إلى الألحان ذات الدلالة اللفظية أو الرسم لتحديد مواقع الصيد والخطر وغير ذلك. هذا المشهد يدل على ارتباط الفن منذ بداية التاريخ بالتطور والازدهار الإنساني، أي ما نسميه في عصرنا الحالي عملية التنمية المادية والبشرية.
ارتباط الفن بالازدهار الإنساني حدد مضمون الجمال والقبح. ولكيلا نغوص في التعريفات المختلفة عبر التاريخ للجميل أو القبيح، والنابعة أساساً من المواقف الاجتماعية المتضاربة للفلاسفة، نذهب مباشرة لمقياس الجمال الذي يعتمد عليه النقد الفني. المقياس الديالكتيكي المتبع في النقد الأدبي والفني العام هو مقدار ما ينجح به النص أو المعزوفة أو اللوحة أو المجسّم في ملامسة الهمّ الاجتماعي شكلاً ومضموناً.
المقصود هنا بالهمّ الاجتماعي هو (الجميل الذي يتناغم ويبرز التطور والقبيح الذي يعارض الازدهار الاجتماعي). من هذا المنطلق يصبح الجميل هو المفيد فردياً واجتماعياً، أي الذي يلبي الحاجة الجمعية للنمو والازدهار الإنساني.
يطلق الفلاسفة على الجميل المتناغم مع التطور اسم النافع، وهي كلمة مترجمة حرفياً من اللغات الأجنبية، ولكن المنفعة هنا لا تؤخذ بالمعنى التجاري أو الفردي، إنما بالمعنى الاجتماعي لها، أي أن (الجميل هو النافع اجتماعياً أي الحداثي).
مفهوم الإبداع الحداثي يشير ليس إلى توصيف التطور بالجميل وحسب، إنما الإبداع الذي يسهم في ارتقاء الذوق الجماعي، كي يصبح (النافع) هدفاً يطلق الطاقة الكامنة لدى المتلقي من أجل أن ينشد الرقي والازدهار. الإبداع الحداثي يشير أيضاً إلى العلاقة العضوية بين المبدع والمتلقي، من حيث إن كليهما نتاج التجربة الاجتماعية من جهة، ويسهمان في إثراء تلك التجربة من جهة أخرى. كما أن - مادّة العمل الفني - (الفاعلية) ليست موجهة لنخبة المبدعين وحسب، إنما وهو الأهم لجمهور المتلقين بشكل عام.
لحسبي أن مفهوم الموهبة قد أسيئ استخدامه أيّما إساءة، فقد قسم البشر إلى موهوبين وغير موهوبين، أي أنه فصل بين المبدع والمتلقي، فهو مأخوذ من الهبة وبالتالي يكون الإبداع ليس شأناً اجتماعياً ولا حتى فردياً، فالمواهب بهذا المعنى ليست مقدرات ذاتية للأفراد نتيجة التطور التاريخي وتراكم التجربة الاجتماعية والإنسانية العامة، إنما هو هديّة ممنوحة للفنان من خارجه، وبالتالي لا يستطيع من لم يحصل على تلك (الهبة) أن يقبل أو يرفض الإبداع.
المحزن في كل ذلك أن من لديهم القدرة الإبداعية استولوا على - وروجوا لهذا المفهوم انطلاقاً من أنانيتهم، وأصبح الإبداع ليس تطوراً إنما هو عبث، والفنان الحقيقي هو الذي يتنصل للالتزام بالهم الاجتماعي والإنساني العام ويغرق في ذاتيته (عبثه) حتى لو كان إبداعه ترويجاً للرذيلة أو إرضاءً للغرائز.
بذلك أصبح من يناضل إبداعياً من أجل مجتمعه مسكيناً يتسكّع على أبواب الإبداع لأنه ليس عابثاً، أو أنه مبدع ولكنه غير شريف لأنه (طلّق زوجته!) أو لم يستطع تكوين عائلة أو لم يسع للكسب المادّي - فهو إذن من حثالة البشر. أمّا بعد موته فتباع أعمالة بمبالغ خيالية ويصبح مدرسة فنية يقتدى بها، والاقتداء يحصر - وبشكل مقصود أيضاً - بالشكل وليس بالمضمون.
لا شك أن لكل ظاهرة مادية أو معنوية شكل ومضمون، وهما متلازمان في وحدة واحدة ويحدد كل منهما الآخر، وتطور أحدهما يؤدّي إلى تطور الآخر. الشكل في العمل الفني يدلّ على المضمون، وبالتالي يكون الشكل قبيحاً إذا كان المضمون قبيحاً والعكس كذلك.
كما أن العمل الفني ينفذه فرد أو مجموعة أفراد، ولكن ذلك لا يعني بتاتاً أن الإبداع فردي، فالفرد نفسه هو نتاج مجتمع له إرث وتاريخ فني بناءً على معاناة عبر الأجيال في خضمّ العملية التطورية، وعملية فصل الفردي عن الاجتماعي في الإبداع هو إجهاض مقصود للعمل الفني ذاته، لأن الفن الذي يتناغم مع التغيير هو (ثورة) لا يمكنها أن تكون فرديّة أو منفصلة عن الحركة الاجتماعية.
ارتباط الفن بالتطور يجعله متطوراً وغير ثابت، فهو في حركة مستمرّة متناغمة مع الموقف الاجتماعي، ولذلك فهو يسير باتجاهين لا ثالث لهما، الأول يتناغم مع العملية الثورية والهموم الاجتماعية والثاني يتناغم مع الثورة المضادّة ومحاولات إفراغ الفن من هدفه الاجتماعي. أمّا من يدّعي أنه محايد فهو كاذب على نفسه والآخرين، حيث إن عدم اتخاذ موقف في صراع محتدم هو موقف بحدّ ذاته يخدم الظالمين في نهاية المطاف.
الفنان الذي يتخذ من الهم الاجتماعي مادّةً لفنّه هو الفنان الثوري الذي قد يتعرض لشتى أساليب الترغيب والترهيب والإساءة والإلحاقات القانونية لحرفه عن موقفه الاجتماعي، أما الفنان الذي يكرّس فنه لإفراغ الفن من همّه الاجتماعي وإغراقه بالفرديّة والنزوات الحيوانية أو الخيال غير الواقعي، فهو فنان مضاد للعقد الاجتماعي ويشوّه الوعي والذوق الجمعي، كما هو الحال بالنسبة للسارق أو القاتل أو أي مجرم آخر، سواءً كان فنه عن قصد أو غير قصد. الجميل لا يمكنه أن ينفصل عن الحركة الاجتماعية والموقف الاجتماعي الكامن في داخل الفرد ومجتمعه، ولذلك لا يجوز التعامل مع الجمال في النقد الفنّي كمفهوم مطلق.
المفهوم المطلق موجود في الوعي الإنساني فقط وليس موجوداً في الواقع، ويستخدمه الفنان أو غيره للدلالة على الواقع الموضوعي وليس لتجيير الواقع لصالح المفهوم المطلق، فمفهوم الإنسان مثلاً لا يوجد في الواقع الموضوعي، حيث لا يوجد إنسان واحد في أي بقعة من العالم حالياً وتاريخياً يمكن أن نطلق عليه كلمة (الإنسان)، فأي فرد له تاريخ ميلاد ومنشأ وتربية وجنسيّة وتجربة حياتيّة تميزه عن أي فرد آخر، لذلك لا يمكنه أن يكون مطلقاً.
مهمة المفهوم المطلق (الإنسان أو الجمال) هي لغوية بحتة، أي للدلالة على البشر في الأمور المشتركة فيما بينهم وليس لتفريخ مفاهيم مطلقة متتالية لإجهاض الواقع والتعمية الفكرية أو الفنية أو كليهما معاً. من هذا المنطلق لا يوجد تعريف لـ (الجمال) كمفهوم مطلق يصلح لكل زمان ومكان، إنما يوجد تعريفات متتالية زمنياً ومكانياً واجتماعياً.
لو عدت قليلاً إلى الشعر الجاهلي الذي استوطن في وعي وضمير الأجيال المتتالية عبر الزمن، حيث يمتلك السحر الشعري حتى يومنا هذا وسيستمر في ذلك، فهو يتضمن الصراع الاجتماعي الذي كان سائداً، ولكننا لا نقبله من شاعر معاصر لا بالشكل ولا بالمضمون، بل نعتبر الإصرار عليه إساءة لذوقنا الجمعي...لماذا؟... هل لأن الشعر الجاهلي ليس جميلاً؟ وهل أن الشعر الجاهلي لا يتلاءم مع (تعريف الجمال)؟ بالطبع لا، إنما الذوق الجمعي قد تغيّر وتعريف الجميل والقبيح قد تغير أيضاً. أما الشكل في القصيدة الجاهلية المرتبط بالحياة اليومية لذلك الزمان كوسائل المأكل والملبس والدفاع والنقل والتواصل الاجتماعي وغير ذلك، قد اندثرت وحلت محلها وسائل مختلفة بما لا يقاس.
بالنسبة للمضمون يختلف الأمر قليلاً، فنحن نشترك مع المجتمعات كلها سواءً حالية أو جاهلية أو ما قبلها بالصراع الاجتماعي. فالمديح والهجاء والغزل والحب وغيرها موجودة كمضمون لدى كل المجتمعات، ولكن هذه المضامين المشتركة ليست متطابقة، أي عندما يهجو الشاعر الجاهلي شخصاً لأنه بخيل، يهجو بالمقابل شاعر في عصرنا الفساد الذي يمارسه بعض المسئولين في الدولة مثلاً، وهذا يعني أن المضمون قد تطور. كيف يمكن للشعر الجاهلي إذن أن يمثل قيمة جمالية لدى الأجيال المتتالية بالرغم من الاختلاف بالشكل والمضمون؟
يتضح بشكل جليّ أن القيمة الجمالية للشعر الجاهلي تتجلى في تناغمه مع الحركة الاجتماعية الملحة لذلك العصر، ونستمتع نحن بالملاحم الشعرية التي تبرز الصراع بين الظالم والمظلوم، ولكننا لا نستسيغ شعر جاهلي من شاعر معاصر لأن المضمون والشكل قد تطورا عبر الأجيال، وإذا كان الفن ضرورياً في كل زمان ومكان لأنه جزء من الوعي الإنساني وبالتالي هو جزء من إنسانية الإنسان ووسيلته لتحقيق الرقي والازدهار، فهو مرهون بالمرحلة التاريخية لتطوّر المجتمع.
بهذا المحتوى الواضح للجميل والقبيح والصراع التطوّري بينهما نصل إلى الاستنتاج الأساس، وهو أن لكل مرحلة تاريخية مفهومها الخاص للجميل والقبيح ولكنه لا ينفصل عن المعاني التطورية التراكمية المتتالية عبر الأجيال من حيث القيمة الجمالية.
بقي سؤال آخر هل القيمة الجمالية مطلقة أو دائمة؟ بالطبع لا، فكل عمل فني له قيمة جمالية تختلف عن الآخر في الكم والكيف في الزمن المحدد، وتوجد أعمال فنية لا يتعدّى تأثيرها من حيث المكان الحارة التي أنتجت فيها، بينما توجد قيمة جمالية لأعمال أخرى يتعدّى تأثيرها حدود الحارة أو المدينة أو الدولة أو الإقليم. كما أن للقيمة الجمالية مهما بلغت شدّتها الكمية والكيفية وانتشارها الجغرافي زمناً محدوداً. فهي لا تستمر من حيث شدّتها أو وقعها على المتلقي إلى الأبد إنما تخفت تدريجياً - عبر الأجيال - حتى تتلاشى.
بدون حركة اجتماعية لا يوجد فن أو جمال أو قبح أو إبداع أو مشاعر، ولكن هل العلاقة بين الحركة الاجتماعية والفن هي باتجاه واحد؟ أي المجتمع ينتج الإبداع ولا شأن للإبداع بذلك المجتمع الذي أنتجه؟
العمل غير الفاعل اجتماعياً ليس فنّاً ولا حكمة ولا نصيحة ولا غير ذلك من نعوت، هو لا شيء على الإطلاق. العمل الفني هو المؤثر اجتماعياً، بل يقاس بمقدار فاعليته الاجتماعية وانتشارها واستمرارها عبر الزمن وجغرافيتها في النقد الفني.
العمل الفني الذي يسهم في تقويم الحركة الاجتماعية أو دفعها نحو التقدّم أو (الجمال) هو عمل إيجابي، أما العمل الذي يعيق التطور أو يحرف اتجاه الحركة هو عمل فني أيضاً، ولكنه سلبي أو (قبيح).
- د. عادل العلي