كاتب تحت تأثير الحضور وشهوته وقبله الطموح وسكرته، جاهد وثابر حتى أصبح علماً من أعلام الكتابة، مارس التطبيل زمناً طويلاً ونال مغانم كثيرة ، علم أن القلم سلاح فعّال للبقاء والتمكن والنفاذ، فمارس من خلاله هواياته وغواياته، ترغيباً وترهيباً، أشرعت الأبواب له فأصبح يدعى إلى صوالين الأدب والفكر والثقافة وشيء من السياسة ، يتميز بتعدد الأهواء والمشارب، فمرة يميل إلى اليمين تشدداً وصلفاً، ومرة ينحو إلى اليسار متحللاً من كل عقد التاريخ ومحنه ونحله، ومرة يصالح الفضيلة فيستطيب المقام في الوسط وسطياً في حله وترحاله.
حل عليه غضب صنّاع الحياة فألقموا قلمه حجراً وأصبح منزوياً أثراً بعد عين! .
أخذ يفكر في حاله وما آل إليه، أخذ يفكر في مكاسبه وامتيازاته، في شهرته وحضوره اللذين سلبتهما الصدفة ومزاجية الآخر .
أخذ يتذكر زمناً مضى كان في واجهة الأحداث، بل كان يصنعها ويعيد تدويرها بمداد قلمه مقالات وبحوثاً ورسائل .
والآن أصبح فارغاً بلا شغل ، الأمراض النفسية استوطنته والعضوية بدأت تدق أبواب جسده ، وشماتة الأعداء تطوقه وتجاهل الأحباب يقتله ويحزنه .
فكر كيف يعود إلى واجهة الأحداث بعد أن تخلى عنه رفاق الأمس وانحسرت عنه أضواء الحضور والتنفُّذ !.
تحت وطأة هذه الظروف بدأ بمغازلة الضفة الفكرية المقابلة والتي أدماها في زمن مضى جلداً واتهاماً ، كان يحتسب نقدها ويراه فرض عين على كل حامل قلم حر مستوطِن أو مستوطَن .
كان في نظر عتاولة الضفة المقابلة ودهمائها شيطاناً رجيماً وعامل هدم يحتسب أجر تشريحه وشيطنته..
ومع ذلك انقلب على أفكاره القديمة وراح يعيد كتابة تاريخه، من خلال انعطافه الفكري الجديد ، البعض رآه تحولاً وآخرون يرونه هداية، أما هو فيراه مجرد برنامج تشغيل إضافي لمحتوى أصيل لا يمكن تغييره أو حذفه ومصادرته، برنامج يبقي أطماعه ونزواته حاضرة ، مجرد تغير بسيط طرأ على الأسلوب أما المتن فمصان ومحفوظ .
دشن أول كتب مرحلته الجديدة وهو عبارة عن سيرة ذاتية يطعمها ببعض الأسرار لصغار طواهم الزمان وحكمه ، يحاول من خلالها بث رسائل علها تصل إلى رموز أبعدوه وخذلوه وتركوه ، لا يعيره الآخرون اهتماماً ويظل كتابه مجرد حدث عابر لا يسمن ولا يغني من جوع .
الضفة المقابلة تحتفي بإصداره الجديد وتستخدمه لآخر حرف ليكون وسيلتها لمنابزة المختلفين والمخالفين ، يطمئن صاحبنا أنه قد حقق مراده وأنه عائد لا محالة إلى دائرة الضوء التي لا يستطيع العيش خارجها أبداً .
يدعى إلى مناشط منبرية وأخرى حفلات سمر ، يستغل ويستنفذ حتى يصبح حضوره باهتاً وممجوجاً ومبتذلاً ، يفكر في نفسه في أحلامه في منزلة عالية أجبر على تركها ، وأصبح مجرد رقم صغير لا يؤثر فى أي عملية حياتية قادمة.
يسأل نفسه ماذا بعد ؟ كيف أعود ؟ وكيف أصبحت مغموراً مهمشاً؟ ، لا شيء يستطيع فعله فمنابر الكتابة عافته ومنابر الأمسيات لم تعد تطيقه وأصبح عالة على الحياة وعلى نفسه.
لم يبق له إلا أن يصبح حكواتياً يسرد شيئاً من تاريخ مضى لم يصنعه ولم يشكله، كان مجرد لون أضيف إلى تلك الصورة التي ما زالت عالقة في ذهنه ، كان مجرد أداة استخدمت ثم انتهى عمرها الافتراضي .
النهاية تكمن في اختياره المنبر الأخير ليبقى حاضراً في الذاكرة الإنسانية ..
إنه منبر شهود العصر ، الذين يحكون تاريخاً يعرفه الجميع ويزوقونه ببعض الأكاذيب ، هذه الشهادة غريبة فلا يسبقها يمين بقول الحق ، والأغرب أنّ هذا الشاهد حين يمثل في محكمتها، يدفع له مقدماً ثمن تلك الشهادة التي تبقيه وتبقي قصته، ضمن أراشيف البرامج الحوارية المحكية التي عادة ما يطلبها المشاهدون .
- علي المطوع