عبده الأسمري
قبل أعوام وأثناء قيامي بمهمة صحفية بمدينة جدة لمست أرتالاً من المشردين في عدة مواقع وتحت الجسور بعضهم يهرب من كاميرا التصوير وآخرون يكتفون بالبكاء، ونوع أخير لم يستفق من منامه متجاهلاً كل الجهات الأربعة مكتفياً بدمعة حائرة حبست عليها جفونه. التشرد لدينا له أصناف ومشاهد موجعة لحد البؤس وباكية لدرجة النحيب. مسنون وشباب بعضهم مرضى نفسيين وآخرون عالقون بين الجنون والعقل، ونوع أخير يتشبث بالموت هرباً من الحياة.
ما رأيته وما زلت ألمسه في العديد من المدن وخصوصاً الكبيرة والحدودية ملامح نكران وقصص تنكر وفصول ويل كان وسيظل التشرد عنواناً رئيسياً لها والموت البطيء نتيجة منتظرة فيها.
هؤلاء بشر. من أين يأكلون؟ وكيف يعيشون؟ بعضهم من رمته تداعيات العقوق على رصيف الألم أو باعته المخدرات على ناصية الضياع، أو قذفت به أوجاع الفقر إلى بؤرة الخذلان، أو هبت به ريح المرض العاتية إلى مرمى العجز. كلهم يعانون من ظروف قاهرة بل ويعيشون بلا مأوى ودون سؤال.. هم أقرب للموت منه إلى الحياة.
إنهم بين الحياء والاستحياء وبعضهم احتضنته بؤر التشرد فلم يعد يلقي بالاً للآدمية ولم تعد نفسه موزونة إلا عندما يرقد طويلاً لينفصل عن هذا العالم الذي لا يشبهه أبداً ولا يشبه وضعه ومصيره.
إن مات هؤلاء من يكفنهم ويصلي عليهم ويقبرهم؟ من يترحم عليهم من المسؤول عن خاتمتهم المؤلمة ونهايتهم الأشد إيلاماً. هل في وجودهم خطر مجتمعي أم نقص اجتماعي؟ وهل هنالك «إنسانيون» قدموا لهم لفتة خير أو لمسة عطاء؟
الجمعيات تملأ البلاد تحت مسمى الخير ولافتة الإنسانية وفرق طبية تذهب لطالبي العون الصحي في منازلهم وسيارات إسعاف تملأ مواقف مراكز الهلال الأحمر، وبشر يتخطون هؤلاء المشردين ليلاً ونهاراً ويرونهم ويشهدون المأساة شهادة الحاضر الناضر، ورجال أعمال يسمعون عنهم ويكفون أيديهم عن المد، وباحثون اجتماعيون ينتظرون خارطة المواقع لزيارة الفقراء بينما المشردون بين ظهرانيهم.
أتحدى إن كان هنالك من جهة باشرت تلك المعازل والمرامي البشرية ودرست الحال وشخصت المصير. ولكني متيقن أن هؤلاء المكلومين يهربون إلى أقرب حاوية أو مخبأ قصي هرباً من الشرر المتطاير من اللجان التي تود الحفاظ على المكان لتنظفه من الإنسان. وما أتعسها من لجان تلك التي تتقاعس عن «إكرام الإنسان» لانتشاله من الخذلان الذي بات يسوقه نحو الموت ببطء وبألم متزايد وكأنه يقضي محكوميته الأبدية في زنزانة التشرد المفتوحة التي انتهكت ستره وأنهكت جسده.
نحن أمام ظاهرة أولى من غيرها وحولنا مشهد يحمل كل الألم. الوزارات المعنية ليست بحاجة إلى من يوجههم أو يدلهم. البوصلة تتجه نحو الكباري والجسور وفي شوارع شهيرة داخل المدن حتى أن بعض هؤلاء بات معلماً مكانياً أكثر من كونه إنساناً من حقه الحياة. الجامعات تدرس الأحياء الدقيقة والميكروبات في أعمق درجات الاختفاء ولدينا بشر يشكلون لوحات بشرية لافتة تنتظر الالتفاتة فقط. حالات لا تنتظر بحثاً ولا تقصياً ولا تعمقاً. أناس يحتاجون عاجلاً أقرب مستشفى ومركز إيواء يتطلعون لملبس ومأكل ومشربٍ كحالات إنسانية طارئة. وإن كان بعضهم مريضاً نفسياً أو حتى عقلياً فالأجدى نقله للعلاج والرعاية وإلا فما فائدة مليارات إنشاء المصحات وملايين تغطية رواتب طواقم العمل. هؤلاء الشريحة بحاجة إلى لجنة ميدانية عاجلة مشكلة من إمارات المناطق والأمن والصحة والهلال الأحمر والعمل والتنمية الاجتماعية والاستعانة بخبراء لدراسات عاجلة وعمل جاد لحصرهم والعمل على إيجاد حلول عاجلة لإنقاذهم من حالتهم الإنسانية والاجتماعية، والبحث عن أسرهم ومساءلتهم وتوفير متابعة طبية عاجلة لهم؛ لأنهم حالات طارئة وتوجيههم سريعاً إلى مواقع إيواء توفر لهم العيش الكريم وضمان الحياة لهم لأنهم وبكل حياد «يموتون ببطء».. وأمام الناظرين!!