د. حسن بن فهد الهويمل
لم يكن شيء أقدر على تفجير إنسانية الإنسان كالقراءة. كما لم يكن شيءٌ أقذر في تفجير ينابيع التوحش في الإنسان كالجهل.
أهمية القراءة لم تكن مُكْتَشَفاً إنسانياً: شرقياً كان, أو غربياً. لقد انبعثت أهميتها من (غار حراء) عندما اتصلت السماء بالأرض تَهْمِي بوابل الرحمات للعالمين: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}.
والقراءةُ تَعْقُبُ صرير الأقلام, وخَشْخَشَة الصحف: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}.
فنحن أمة القراءة، ربطتنا بها رسالة السماء، قبل أن يكون الغرب والشرق شيئاً مذكوراً.
ومع هذا السبق الحضاري, نجد من يزايد على حضارتنا. بل نجد من ينفي أننا أمة متحضرة.
والمنعمون المتفضلون من يرون أننا جِسْرٌ عبرته الحضارة (اليونانية) إلى الغرب (كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا). أو
(كالْعِيسِ في البَيْدَاءِ يَقْتُلُها الظما
والماءُ فَوْقَ ظُهُورِها مَحْمولُ)
ولو رحنا نتلمس بكائيات الشعراء على أمجادنا الضائعة, لما بلغنا نهايتها. وأقوى مناشدتين: بكائية الشاعر (محمود غنيم). وعتابية الشاعر (عمر أبو ريشة).
والتفجع ليس على المجد المضاع, ولكنه من نفاذ الفحيح الأفعاوي من رويبضات متنفذة في كافة المشاهد، لا تتردد في التكلم في أمر العامة، مما تحققت معه نبوءة من لا ينطق عن الهوى.
هؤلاء الغثائيون لا يترددون في النفي عن سلفهم ما هم أحق به، ولا يتورعون عن تحميل أمتهم مسؤولية التخلف، والضعف, والهوان. نعم أُمَّتنا في راهِنها جزء من التخلف بالقابلية، وليست هي كل المشكلة.
للمفكر العربي الكبير (عباس محمود العقاد) كتيب صغير, صدر في سلسلة (اقرأ) بعنوان (في بيتي)،تحدث فيه عن مكتبته, وعما تحويه من كتب, وسعت أفكاراً شتى, من ثقافات شتى.
لقد أعطى (الكِتَابَ), و(القراءةَ) ما هما أهل له. ووصف الكُتُبَ الجاثمة على الأرفف بقماقم مليئة بالعفاريت المصفدة.
وأغلب الظن أنه أدار الحديث مع (فتاة فلاحة)، لا تدري ما الكتاب, ولا الكتابة. وهو يريد من هذا الحوار الفني الذي لا يُطْلَبُ فيه صدق الواقع الترغيبَ في القراءة, وإبراز أهميتها.
و(العقاد) من مُدْمِني القراءة، حتى أُثِر عنه أنه يقرأ, ويكتب ما دام مستيقظاً.
والقراءة وحدها، دون المؤهلات الورقية صنعت منه إنساناً ملء سمع الدنيا وبصرها.ولكننا اليوم في عصر الشهادات, لا عصر الكفاءات.
موت العباقرة ولادةٌ جديدة لهم، فغياب أجسادهم يُمَكِّن لأفكارهم من مَلْء الفراغ الذي تركوه.
لقد عُمِرت الأرضُ بآلاف (المليارات) من البشر, وما بقي في الذاكرة إلا الذين خلَّدوا أنفسهم, بما تركوه من علم ينتفع به.
وإذا كان الإنسان بموته ينقطع عمله إلا من ثلاث: الصدقة الجارية. و العلم الذي ينتفع به.والأبناء الصالحين الذين يَدْعون لآبائهم.
فإن الصدقة تنقطع, كما انقطعت أوقاف الصحابة, ومَنْ بعدهم. والأبناء يموتون. أما العلم فيبقى، وهو بعض ما نشاهده في الكتب, والموسوعات, والمعاجم التي مر على موت أصحابها مئات السنين.
والقراءة هي السبيل القاصد للخلود, ولإشاعة المعرفة بكل تنوعاتها، ولولا القرطاس, والقلم لفقدت الإنسانية كلَّ معارفها, وجُلَّ تجاربها.
والذين لا يقرؤون يعبرون الحياة كأي قطيع من الحيوانات: الأليفة, أو المتوحشة:-
(ومَا اِنْتفَاعُ أَخِي الدُنْيا بِنَاظِرِهِ
إذا اسْتَوَتْ عِنْدَه الأَنْوَارُ, والظُّلَمُ)
والقصد من تساؤل (أبي الطيب) هو لفت النظر إلى أن الأنوار ليست هي الأنوار المدركة بالأبصار، ولكنها أنوار البصائر:- (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ).
والقراءة اليوم تماهت مع نظريات عِدَّة, منحتها أبعاداً جديدة، كنظريات: (التلقي) و(التناص) و(نظرية المعرفة) بحيث خرجت بها من عفويتها، وبساطتها إلى رؤى, وتصورات فكرية, وفلسفية معقدة.
يتبع