عبدالعزيز السماري
قد يمر ذلك المشهد الجميل لمراحل انتقال السلطة السلمي في الغرب من دون إثارة لعلامات للتعجب عند الكثير، فقد اعتادت شعوب المنطقة على خيارات الانقلاب العسكري أو الحرب الدموية من أجل أن تنتقل السلطة من حزب إلى آخر، وربما وصلنا إلى قناعة أن التطور والحياة السلمية والحقوق واحترام الحريات احتكار غربي حصري، ولا يجوز للدول خارجها أن تتمتع بهذه الحياة السلمية.
بينما الأمر في حقيقته يعود إلى حالة مرضية نعاني منها منذ زمن طويل، فالاستبداد واستباحة الدماء من أجل الوصول إلى كرسي الحكم طبيعة وفطرة شرقية، ولا يمكن أن نتجاوزها إلا بمعجزة كبرى، فالديموقراطية ليست خياراً نخبوياً، ولكن ثقافة اجتماعية تبدأ من المنزل الصغير، ومحورها حرية الاختيار، ولهذا لا يمكن أن نصل إلى هذه الحالة بأغلبية الأمية والتطرف الديني والقومي.
تختزل ركيزة التعليم والاقتصاد كل المراحل، وتقود دوماً نحو الحلول المثالية من دون عوامل الدم والدمار، فالحاكم في الشرق اعتاد أن يحكم من خلال الأمية المعرفية، معتقداً أن ذلك أقصر الطرق للسيطرة على المجتمع، بينما علمتنا الأحداث الحالية أن ثورات الشعوب الأقل تعليماً أكثر دموية من الشعوب المتعلمة، ومثال ليبيا وتونس يبرهن على ذلك.
قال الحبيب بورقيبة الرئيس التونسي السابق يوماً للزعيم القدافي: لماذا تستثمر أموالك في السلاح، ولا تستثمرها في التعليم؟ فكانت إجابة القدافي: أعلِّم شعبي كيف يثور عليَّ في يوم من الأيام! فأجابه بورقيبة: يثور عليك شعب مثقف أفضل من أن يثور عليك شعب جاهل.. !، وهو ما يعني أن الثورة الدموية مصير للأسف في العالم الثالث، ولكن كان بورقيبة حاكماً متعلماً، ويتقي من كوارثها بالتعليم، لأن الشعب المتعلم بالتأكيد أقل دموية وأقل مجازفة في الخطر.
ولهذا ما يحدث في الغرب هو نتيجة طبيعية لانتشار التعليم في مجتمعاتهم، فالأمن الحقيقي يكون من خلال ثنائية ارتفاع مستويات التعليم والاقتصاد المتين، وما حدث في دول العراق وسوريا وليبيا من دموية كان بسبب إهمال التعليم من قبل حكوماتهم في العقود الأخيرة، فكان الثمن خراباً ودماراً.
ولهذا السبب عادة ما تنتصر السلطة الذكية والأكثر دراية بحاجات الشعوب، وقد تتحول إلى رمز تاريخي إن عملت من خلال ثنائية التعليم والاقتصاد، وعبر تخفيف القيود على حرية الرأي والحريات الاجتماعية، والأهم من ذلك تطوير أنظمتها الإدارية وفلسفتها في الإصلاح..
فالإصلاح ليس أخلاقاً عامة تحكمها السلطة من فوق، ولكن منهج شامل يتناول مسائل الحقوق الإنسانية وآليات الإصلاح الإداري والسياسي، ومن يعتقد أنه يختلف عمَّا سبقه من الأمثلة في التاريخ القديم، فهو يكابر في منطقة حكمتها الدموية والقتل من أجل الصعود إلى كراسي الحكم بالقوة المفرطة.
لعل الوقت قد حان لتغيير لغة التواصل السياسي مع الشعوب، فالخطاب المؤدلج عبر الأفكار المعلبة لم يعد مجدياً، فالناس أصبحت تبحث عن حياة أفضل في الدنيا، وتنتظر من السلطة أن تفي بوعودها في الحياة الدنيا، وإذا لم يحدث ذلك تبدأ مرحلة الصمت التي عادة ما تسبق الفوضى غير المنظمة للوصول إلى مشاهد بداية مرحلة دموية ونهاية أخرى.
لهذا السبب تتداعى أمام ناظرينا تلك المنازل المحترقة والجثث الملقاة في الشوارع في بعض بلاد المنطقة العربية في فترات انتقال السلطة، حين يمر مشهد تنصيب رئيس جديد لدولة في الغرب الكافر، وكأنهم يعيشون في كوكب آخر، يسكنه بشر أكثر ذكاءً وتطوراً من أولئك الذين يعتقدون أنهم أفضل شعوب الأرض، وأن الدم أسهل الطرق للوصول إلى كراسي السلطة، ولو كان ثمنه حياة شعبه..