د.عبد الرحمن الحبيب
رجل مرور يمشي بهدوء مصوراً سيارات ويسجل مخالفات عليها رغم أنها تقف بشكل نظامي في العزيزية بمكة المكرمة. هذا ما أظهره مقطع الفيديو، فيا للهول! إنه يرتكب خطأ شنيعاً يثير السخط، حتى دون تعليق سلبي فعيناك تخبرانك، لأن الصورة صحيحة وليست مفبركة!
تلك من أشد أنواع التضليل تأثيراً! لكن إدارة المرور أوضحت أن ذلك كان في بداية شهر ذي الحجة، وخطتها أثناء موسم الحج تقضي بإخلاء جميع الطرق المؤدية للحرم المكي الشريف لتمكين الحجاج من السير بسهولة، وأن تصوير رجل المرور للسيارات كان يهدف إلى معرفة مالكيها وإبلاغهم بإخراجها حتى لا تتعرض للإزاحة، وأنه لم يتم تسجيل أي مخالفة..
ليس دائماً هناك من يوضح الحقيقة لنا، ففي الخبر الزاخر بالمشاهد الفاقعة يعزف المتلقي عن التحليل العقلاني، لأن العين هي أشد الحواس تأثراً وأسهلها إقناعاً، مفضية إلى انطباع يصعب تغييره؛ فمع الصورة المبهرة لا يصبح لتفاصيل الخبر وسياقاته معنى ذا قيمة. هذا ما دعا المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه أن يقول: «إذا كان أساس السلطة هو الإقناع، فإن الصورة توفر اليوم قدرة إقناعية لم يسبق لها مثيل، فمن يتحكم بإنتاج وتسويق الصور يتحكم بالمجتمع كله».
قبل خمسة عشر عاماً تهكم كثيرون على أطروحة المفكر المسقبلي كيفن كيلي بأن الإنترنت سيؤدي خلال العشرين سنة المقبلة لانقراض الإعلام التقليدي، وسيصعب التمييز بين الواقع والصورة، بين الحقيقي والتمثيلي، وسيحدث تهجين بين الخيالي والواقعي. الآن، أصبح ذلك ماثلاً أمامنا! ففي الإنترنت يتم اللعب بالحقائق بمزجها بالصور المصطنعة والحقيقية. هل نشاهد واقعة فعلية؟ وإذا كانت كذلك فهل فهمناها على نحو سليم؟ أو أننا نشاهد صوراً منتقاة من الحدث مع أخرى مصطنعة؟ والأهم كيف نستطيع التمييز؟ الإجابة ستكون في نهاية المقال..
ما مقدار التزييف في الإنترنت؟ في دراسة علمية (د. خالد النمر وآخرون) عن سلامة المعلومات الطبية في موقع تويتر، وجد أن نحو ثلثي حسابات التغذية والصحية غير الرسمية التي تغرد باللغة العربية كانت معلوماتها غير صحيحة. كما وجد، عموماً، أن حوالي نصف المعلومات كانت غير صحيحة، وأقل المعلومات صحة كانت لحسابات التغذية، بالمقابل كان أعلاها صحة هي الحسابات الحكومية وكذلك حسابات الأطباء الرسمية.
كيف يستطيع البعض التأثير بشدة علينا؟ وضع مالكوم جلادول ثلاثة عوامل تسويقية لجذب الجمهور إلى بضاعتك الإعلامية أياً كانت فنية، أدبية، تجارية، سياسية؛ وهي: عامل الشكل المؤثر: أي شيء يحبه المستهلكون؛ عامل اللصق بالذاكرة: أي شيء يلتصق بذاكرة المستهلك؛ عامل قوة السياق: أي شيء يناسب السياق المكاني والزماني والملابسات المحيطة بالوضع. المهم هو جذب الجمهور (الشعبوية) بغض النظر عن المصداقية..
أن تكون شعبوياً يعني أن تجعل من خصوصياتك سلعة إعلامية مربحة في ثقافة الإنترنت، ويعني أن أفكارك ومشاعرك بضاعة تباع.. إذا أنت أنتجت لقطات خاصة من كامرتك الرقمية لعرضها للعائلة والأصدقاء فأنت لست منتجاً، بل تتسلى ببراءة مع معارفك. أما إذا عرضتها في الإنترنت فربما تأمل أن تُلاحظ، متوقعاً أن لقطاتك سيتم «استهلاكها» من الغرباء الذين سيُرضون مصالحك، فأنت فعلاً منتج، لأنك تصنع من لحظاتك الخاصة بضاعة محتملة وفقاً لطلب الزبون. هنا تتم المنافسة في صناعة المشاهد مازجة بين الواقعي والمتخيل، تكون الحقائق فيها آخر المعلومات المدرجة وأول الضحايا..
والآن، كيف يواجه الفرد هذا التضليل؟ ثمة وسائل عدة حسب شكل الرسالة.. بالنسبة للصور هناك أساليب أولية، كتحليل الصورة بالعين المجردة والتدقيق في تفاصيلها مثل الألوان والأشكال واللغة والموقع فقد تكون مخالفة لطبيعة الصورة المفترضة.. هناك، أيضاً، حسابات متخصصة في النت للتحقق من الصور والفيديوهات. أما الأساليب الاحترافية فهي عبر تطبيق تقنيات البحث والتقصي يمكنها كشف بيانات خفية تحملها الصورة كتاريخ ومكان التقاطها..
الأهم والأسهل من ذلك هو تقييم درجة الثقة بالناشر ومعلومات المحتوى.. هل هي من مصادر متخصصة تستند على دراسات جادة وإحصاءات من جهات رسمية مسؤولة؟ وإذا كانت غير ذلك فهل المصدر يذكر المرجع الذي استقى منه المعلومات، أم أنه يقدح من رأسه تارة وينقل معلومات من آخرين تارة أخرى ليضعها في غير موضعها؟ هل له مصلحة خاصة من النشر؟ هل اللغة المستخدمة لغة موضوعية أم انطباعية.. حقائق أم آراء شخصية؟ نتائج أم استنتاجات؟ أدلة مادية أم تخرصات؟ درجة الثقة ترتفع مع الدراسات والإحصاءات المتخصصة وتنخفض مع المواقع الصحفية وتهبط كثيراً مع المواقع الاجتماعية وأكثر هبوطاً مع مواقع الهواة.
قد يكون الهاوي الناشر حسن النية ومتحمس لكنه غير مؤهل حين يمتلك نصف علم بما يدلي به ويخلطه بأوهامه، مع مهارة في الإثارة وجذب الانتباه.. نصف العلم هنا هو أسوأ كثيراً من الجهل، لأن الأخير يمكن كشفه بسهولة على خلاف الأول الذي صار مصدر التضليل الأكبر في العالم، فالانطباع الأولى للحالة المشهدية (لقطة قصصية، صدمة شكلية، إبهار بصري..) هو ما يبقى بذاكرة المتلقي، ومن هنا يقول إيرك هوفر: «الدعاية لا تخدع الناس: إنها فقط تساعدهم كي يخدعوا أنفسهم».