عبد الله بن سالم الحميد
في نسيج النخبة من العقول الواعية، والأقلام التوثيقية المتمكنة تتألّق في الذاكرة شخصية المؤرّخ الأديب الشيخ عبد الرحمن بن سليمان الرويشد، الذي يتدثر بالحكمة والمعرفة والتبيّن عندما يتناول أحداث تاريخه المعاصر، أو سيرة رواده بأسلوب الرّصانة والفطنة والرزانة المسكون بالدقة والحذر والبلاغة والبيان.
نبتته الصالحة، ونشأته، وأسرته وتربيته وبيئته كان لها الأثر العميق على نجابته واستقامته، وتفرُّده، وحرصه على التعليم الفقهي المتصل عبر المدرسة التقليدية الأولى (الكتاتيب) وحفظ القرآن، وتلقي الفقه والعقيدة بالتلقين وحفظ المتون في المسجد، ثم الانطلاق إلى آفاق (دار التوحيد بالطائف) مع نخبة من رفاقه النابهين، إذ كانت أشبه بالبعثة الدراسية حين لم تتوفّر في الرياض المدارس النظامية، وعاد للرياض بعد تخرجه ليلتحق بالمعهد العلمي وكلية اللغة العربية منتظماً وكلية الشريعة منتسباً ليتفقّه في الدين ويتأهل فيه لمستقبل الحياة العملية بكل جدارة واقتدار، متصلاً بطموحه العلمي والثقافي والأدبي إلى مستوى أفضل، وآفاق أخرى اكتسبها من تلقي الدروس الأصولية والفقهية في النحو والفرائض لدى الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم وغيره من فُقهاء عصره، كلّ هذا التأهيل أفاده في تجربة العمل الإداري في الميدان التربوي والتعليمي الذي لم يعزلْه، ولم يشغلْه عن ارتياد مجالس العلماء والحكام والفقهاء للاستفادة والاستزادة، واستمرار.
القراءة في تجليات الحياة والأخذ بأسباب المعرفة والثقافة الموسوعية الشاملة.
عَرَفْت الشيخ عبد الرحمن الرويشد عن قرب عبر (مجلة الدعوة) التي أُسند إليه رئاسة تحريرها بعد أستاذي الشيخ عبد الله بن إدريس عام1395هـ، حيث كُنتُ أحد المتعاونين بالكتابة في المجلة إلى جانب الكتابة في جريدة الجزيرة، فاستفدتُ من ثقافة الرويشد وتجربته، وتعامله الأدبي الواعي، وأسلوبه الحكيم في الإدارة والتوجيه والتفكير، وقدرته على استقطاب التوجّهات والآراء والأفكار المختلفة، التي تتفاعل مع ما يُنشر في هذه المجلة حينذاك، نظراً لقراءاته المكثفة حتّى غادر المجلة عام 1398هـ تاركاً بصمته وذكراه.
ولم تشغلْه أعماله الإدارية التي انتظم في ذرى قممها التقليدية عن هواجسه وعشقه لأحداث التاريخ والتوثيق وهمومه، فتشبّث بها باعتداده نسيجاً في نسيجها لا يمكن أن يتخلّى عن مسئوليته نحو التعبير عنها، وصياغة أحداث وطنه بما تختزنه ذاكرته وأدواته من إمكانية الوفاء والتعبير.
صلةُ الكتابة وتجلّياتها وهمومها جمعتْنا ووثّقت وشيجة العلاقة بيننا فشهدْتُ ميلاد مجلته التثقيفية (الشبل) عام 1403هـ التي انبثقتْ من اهتمامه المكثف بتنمية الوعي، والارتقاء بثقافة الناشئة وأدب الطفل، ومحاولة تجديد العناية بثقافة الجيل واستقطابه للقراءة والاطلاع (غير المنهجي الدراسي).
والرسم وحبّ اكتساب المهنة، والتعبير عن آماله وطموحاته بأساليب تربوية متنوعة ليتمكن من خدمة وطنه ومجتمعه بكل أريحية واقتدار.
موجاتٌ من التوتّر الإيجابيّ الفعّال في فكر الرويشد كانت تدفعه متحمّساً مخلصاً لغرس شتلات تربوية وثقافية توعوية نابضة آتت أكلها بإذن ربها، وأثمرتْ عن تطوّر المجلة الصغيرة [الشبل] إلى مشروع أكبر (مطابع ودار الشبل) التي احتضنت طموح المواطن المؤرّخ عبدالرحمن الرويشد بنشر كتبه التوثيقية والتاريخية والأدبية على مرأى قريب منه، وبإشرافه المباشر ومتابعته المستندة إلى مكتبته الضخمة التي تضمّ المصادر والمراجع التراثية، في اختصاصات شتّى، والكتب الفقهية والتاريخية والجغرافية والأدبية.
تضاعفت المصادر والمراجع، والمخطوطات، والوثائق نتيجة الزيارات المتعددة للمكتبات، والمراكز العلمية والبحثية في عدد من دول العالم.
ومعارض الكتب الدولية، واستقطاب كل جديد ومناسب لاختصاصه التوثيقي، والبحثي المتّصل.
وقد كانت هذه المكتبة التراثية الكبرى صالوناً أدبيا يستقبل فيه أصدقاءه وتلامذته، وعشاق الأدب والتاريخ، والباحثين للإفادة والاطلاع على المراجع، أو الاستعانة بالاستشارة، والرأي في مسألة، أو موضوع.
وكانت ملتقى لعشّاق التاريخ والتوثيق من محبي هذه الشخصية الوفائية الفذّة، التقيتُ بنماذج منهم خلال زياراتي وتعاملي مع رائدها الشيخ عبدالرحمن الرويشد، الذي كثيراً ما أجده مشغولاً بالبحث، أو التدوين، أو الإملاء على أحد كتّابه المساعدين في التحرير والتوثيق، وتكثّفت اللقاءات في أثناء الإعداد للمئوية (1419هـ)، حيث كُنتُ حينها مكلّفاً بإعداد برنامجي الإذاعي عن (فتح الرياض)، والبرنامج التوثيقي للتاريخ الشفهي بعنوان (رجال في الذاكرة 1418- 1419هـ) الذي يتناول نخبةً من الشخصيات والفقهاء والأعلام الذي خدموا دينهم وأمتهم ووطنهم العزيز، فاستحقّوا الوفاء والتقدير، وكان الشيخ عبدالرحمن الرويشد أحد مراجع التاريخ الشفوي، بتحدّثه عن واحد من أهمّ تلك الشخصيات في التاريخ المعاصر بالمملكة هو سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، حيث تحدث عنه من خلال معرفته وعمله السابق معه في المعاهد والكليات، وكان أحد تلامذته الأثيرين.
كما تمّ توثيق ما كتبه عن الأديب العبقريّ الراوية عبدالله العجيري (أحد مرافقي الملك المؤسس عبدالعزيز) رحمهم الله.
وبمناسبة المئوية التاريخية، فقد استفدتُ من رؤى المؤرخ الرويشد حينذاك عند بلورة فكرة إعداد (كتاب موسوعي عن الرياض)، تلك الفكرة التي انطلقتْ بتوجيه أمير منطقة الرياض آنذاك (الملك سلمان بن عبدالعزيز) الذي وجّه الأستاذين أحمد الخربوش وعبدالله الحميد، بالشروع في الإعداد للكتاب الذي أسندتْ عملية إعداده إلى نخبة من الأساتذة والاختصاصيين من جامعة الملك سعود، وجامعة الإمام محمد بن سعود، وصدر في عدد من المجلدات بمناسبة المئوية عام 1419هـ.
ولا أنسى في ميدان التحدّث عن التوثيق أن أشير إلى الأسلوب المتميّز للشيخ الوثائقي المؤرخ عبدالرحمن الرويشد عندما يتحدّثُ عن الوطن، أو عن المؤسس الملك عبدالعزيز بوافر الحبّ والحماس، كأنما هو يراه عندما يلتفتُ إلى الراوية الموسوعيّ الأديب عبدالله العجيري ليقرأ من مختاراته بصوته الجهوري الأثير. يشوّقك حديث الراوية الرويشد إلى الاستطراد في الحديث من خبير قريب من الأحداث، معاصر لها.
وانعكس عشقه لمهنته على أسلوبه وصياغته، وحبّه للإتقان والتجديد، والتمييز حتى في حجم كتبه التي اختار لمعظمها (مقاس 30 في 20)، بينما الكتب الكبيرة تأخذ في معظمها [24 في 17] واختار البنط الكبير للطباعة، وهو مريحٌ لأعين القرّاء، ولكنه يكلّف كثيراً بزيادة عدد الورق.
ولحظتُ في الآونة الأخيرة عناية الشيخ الرويشد بتجليد كتبه، وبخاصة تلك الكتب التي تنطبع بالخصوصية، مثل كتاب (الجداول الأسرية لسلالات العائلة المالكة) وكتاب (محمد بن عبدالعزيز أمير الأمراء).
وقد وثق عمله لكتاب: الجداول الأسرية بإعداد لوحة كبيرة تحتوي على (شجرة أسرة آل سعود) ولكنها مع الكتاب تُوزّع على نطاق محدود من قبله شخصيّاً - رحمه الله -.
في الشهر الخامس من عام 1436هـ زرتُ الشيخ الفاضل عبدالرحمن الرويشد في مكتبه (المكتبة التراثية) لأعزّيه في صديق عمره الوفيّ الشيخ عبدالعزيز بن عبدالمحسن آل الشيخ، أحد الدّعاة ورواد التعليم حيث كانا زميلين في الدراسة، صديقين في الحياة، تجمعهما أواصر المحبة والإخاء والوفاء، وقد رثاه الرويشد بمنظومة شعرية تقديراً لشخصه النبيل.
وكلٌّ منهما يعشق الارتحال، والتأمل والقراءة الواعية، ويبادر إلى الخير، وينبذ الفرقة والعنصرية والازدواجية التي تعدّ من معكرات صفو الحياة وسلامتها، ولا أنسى تلك الزيارة الوفائية لتوثيق وشائج المحبة لنخبة من الذين لا يشقى بهم جليسهم، لاسيما أنهم من مجايلي والدي، وزملائه، ومن نهلوا معه من معين العلم الشرعي والفقه لدى فقهاء فضلاء أمثال الشيخ عبدالعزيز السالم (المرشد لدى الملك عبدالعزيز)، والشيخ عبداللطيف بن إبراهيم والشيخ عبدالعزيز بن باز، والشيخ سعد بن فالح، والشيخ محمد بن سنان، والشيخ صالح بن مصيبيح - رحمهم الله جميعاً -.
وكان أبو إبراهيم يمتلك المعلومة الشفيفة، والصورة التعبيرية النقية عندما يتنقّلُ بك بين أحياء الرياض القديمة، يصفها شارعًا، شارعًا، ودروازةً، ومنارةً، ويتحدّث عن حيّ المربّع، وجامع الملك عبدالعزيز وإمامه ومؤذنه: ابن مشعان، وابن حريدين، ودكان ابن دريويش (ابن عروان) وخليفته محسن العمودي، سارداً أطياف مطاوعة المربّع وأسماء كثير من طلبة العلم منهم: إبراهيم العوهلي، وشيخ الحفّاظ سليمان بن عتيّق، والجطيلي، وفهّاد، وسالم بن بطي وعبدالرحمن الراجحي، وشقيقه عبدالله (أبو عبدالعزيز) وجارالله (السقّاء) وغيرهم، كأنما هو بينهم.
وفي إحدى زياراتي له قبل سنوات أهدى إليّ كتاباً خاصّاً ومميّزاً لا أعتقد أنّ مؤلَّفاً آخر فكّر فيه، أو تطرّق لموضوعه أو ألّّف فيه، هو (الشهداء من آل سعود) الذي تناول فيه ثمانيةً وعشرين شخصيةً تفاوتتْ فيها التفصيلات عن أحداث استشهاد كل منهم حسب ما توفّر للمؤلف من معلومات.
احتضنتُ الكتاب، وقرأته، وكتبتُ ملاحظاتي التاريخية عليه، التي أطلعتُه عليها بعد طباعة كتابي (أصدقاء الحياة) الذي أهديته نسخةً منه، فتقبّلها قبولاً حسناً، ولكنه كما نوّهتُ في بداية مقالي حذرٌ، وله رأيه وفلسفتُه الخاصة المنبثقة عن إدراكه ومعرفته وقربه من الأحداث والمواقع والشخصيات التي يتناول سيرتها.
حضور (الملك سلمان) في الأعمال التوثيقية للمؤرخ الرويشد:
للعناية بالعمل ودعمه واحتضان تجلياته مبرراته المنطقية المقنعة، ذلك ما التزم به الكاتب المؤرّخ عبدالرحمن الرويشد، وامتزجت به مصداقيته وتوجهه الذي بذل فيه جهده، واستثمر وقته ليتألق فيه، ولأنّه قد تخصص في التركيز على توثيق تاريخ الوطن العزيز: المملكة العربية السعودية، وتاريخ الأسرة السعودية الحاكمة، وتوفرت لديه أدوات المعرفة والبحث ومصادرها ومراجعها، مع ارتباطه العملي والشخصي الوثيق فقد أصدر أهمّ كتبه عن عاصمة الحكم السعودي (الرياض) بعنوان [قصر الحكم في الرياض- أصالة الماضي، وروعة الحاضر) الذي أهداه إلى أمير منطقة الرياض سلمان بن عبدالعزيز آنذاك، حين صدر قبل ثلاثين سنة تقريباً، ثم أعيدت طباعته عام 1413هـ-1993م،
وقد دوّن في الإهداء :
(الرياض عروس الجزيرة، إذا ذكرتْ ذكر معها صادق الوعد حافظ العهد الأمير سلمان بن عبدالعزيز، ليس لأنه أمير الرياض فحسب، بل لأنه الرجل الذي عرف كلّ شيء في الرياض، عرف تاريخ هذا القصر، تاريخ هذه البلدة، فأقام معها علاقة حب، وبالحب والعمل الدؤوب ازدهر قصر الحكم فأينعت معه الأصالة في مجدها، والحداثة في جمالها، فكان دَيناً في عنقي أن أكتبَ تاريخ هذا القصر الذي عرفتُ قدره فأكبرْته)
وكان الملك سلمان بن عبدالعزيز - كما اعتدْنا من التفاتاته الكريمة - خير داعم لهذا التوجُّه الاختصاصي الفريد، الجدير بالتقدير لإنسان متمكن، كفؤ، يمتلك أدوات الإتقان والتعبير، فاستمرّ الشيخ عبدالرحمن في مجاله البحثي، يرصد ويوثّق، ويؤلف، إلى جانب اشتراكه عضواً استشاريّاً بدارة الملك عبدالعزيز التي تحتضن هذا التوجُّه الاختصاصي الفريد، ويولي الملك سلمان فعالياتها عنايته الدائمة الداعمة منذ تأسيسها حتى الآن.
وحين التزم الأستاذ الخبير عبدالرحمن الرويشد بإعداد (موسوعة سلالة أنساب أفراد العائلة السعودية الحاكمة في المملكة العربية السعودية) في طبعتها الرابعة لعام 1436هـ بيّن حضور الملك سلمان، ودعمه له في إنجاز هذا العمل الموسوعي الذي أصدره باللغة العربية، والإنجليزية، وأوضح ذلك في مقدمة الكتاب بقوله:
(وقد اعتمدتُ في إنجاز هذا العمل الموسوعي التاريخيّ الذي أقدمه اليوم لكل راغب في الاطلاع على تسلسل أسماء أفراد الأسرة المالكة الكريمة، وضبطها على مصادر تراثية من كتب التاريخ والآداب والوثائق والمشجّرات، مما ورثناه عن المؤرّخين الثقات في مدوناتهم التي اهتمّت بتاريخ تلك الأسرة، إضافةً لكل ما كتب العربُ والأجانب مديناً بالفضل لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، العالم الثبت بدقائق تاريخ الجزيرة العربية، لاسيما تاريخ بلاده وأسرته).
وقد شهدنا اهتمام خادم الحرمين ورعايته للشيخ عبدالرحمن الرويشد تقديراً لمكانته وإخلاصه في عمله بحصوله على (ميدالية الملك عبدالعزيز) وغيرها، وقيام الملك سلمان بزيارته في المستشفى، وتعزية أولاده وذويه.
وقد أدى الصلاة عليه الأمير فيصل بن بندر أمير منطقة الرياض بجامع الملك خالد، وعزّى أولاده، وتقبل العزاء فيه من مشيّعيه - رحمه الله وأكرم مثواه.
ولابدّ لي في خاتمة مقالي عن الشيخ عبدالرحمن الرويشد، أن أؤكد أهمية العناية بمكتبته التراثية المعاصرة، وكتبه الوثائقية، وتكريمه بما يليق بمكانته، وما قدّمه لأمته وجيله، وجيل المستقبل، و تقديرًا لعطائه ووفائه -رحمه الله-.