د. إبراهيم بن محمد الشتوي
(4)
تستمر الرواية في سرد العلاقة بين شخصيتها معتمدة زمن القص التاريخي للأحداث التي تدور فيه، أو تقنية السرد التذكري الذي يروي فيه كل شخصية ما مر به من مآسي. وكل هذا يعزز الفرضية السابقة من أن الصلة بينهما عميقة جداً، تربطهما صفات متعدد حتى يكاد المرء يظن أنهما متماثلان.
إلا أن الخاتمة التي تنتهي إليها أحداث الرواية تنسف كل هذه الاستنتاجات التي سودنا فيها المقال السالف، إذ تصبح هذه الفتاة اللعوب هي الخطر الحقيقي الإرهابي الذي يهدد الكاتب، وقد بدا ذلك في آخر لقاء حين أخبرته أن يبقى في المنزل، وستعود إليه بعد قليل. خرجت من المبنى وهو يراقبها من الشرفة المطلة على الشارع الرئيسي، ودخلت في المقهى الصغير المقابل للمنزل الذي طالما ذكرته بالسوء، وأبدت امتعاضها منه ومن زواره، تمكث فيه زمنا غير طويل ثم تخرج وفي منتصف الشارع تنفجر فيها النار، وتتمزق أشلاء.
هنا تبدأ حكاية أخرى بالتكون لم تكن موجودة في المتن الروائي إلا من خلال بعض الإشارات العابرة التي تتحول إلى مركزية كحديث مترجمته الألمانية عن خطورة «لوليتا» التي أشرنا إليها من قبل، وتحولها إلى قاتلة في وقت قصير، وكإشارة إحدى أفراد القوة الأمنية الموكلة بحراسته، وهم يحللون الدائرة التي يتحرك بها «الكاتب»، وصلاته الشخصية بأن الثقة لا يمكن أن تكون راسخة وعميقة بناء على واقعها الاجتماعي، فالمجموعة التي قادت الطائرات نحو البرجين كانت تقضي أوقاتها في الملاهي، والمراقص ثم تحولت تحولاً مفاجئاً.
هذه الإشارة، وهذا الربط في التحليل يكاد يكون لدى القارئ في تلك اللحظة جزءاً من الترف في طريقة التفكير العلمي لمنظومة الأمن الفرنسية كصورة من التطور والدقة في العمل التي لا تترك شاردة ولا واردة إلا وتنظر فيها، لكن لا يبدو من خلال معطيات أحداث النص أنها تكتسب أدنى منطقية أو مصداقية، بناء على أنها جمل عابرة لا تتساوق مع التيار العام للسرد الحكائي.
بيد أنها تكشف عن الخط المضمر للحكاية الأخرى التي لم يقلها السارد، وهي أن هذه الفتاة كانت الطريق الذي سلكه الإرهابيون إلى الكاتب للنيل منه، بعد أن فشلت خطة قتله على يد المتطرف الألماني التي يبدو أنها تتسم بالسذاجة، عمدوا إلى الخطة (ب)، وهي الوصول إليه من خلال هذه الوسيلة الناعمة.. وهنا وجدنا دخولها مختلفاً عن دخول الشاب، واتصالها به مختلفاً عن اتصاله، وهو ما سبق وأن أشرت إليه من قبل، إلا أن الذي نقوله الآن أن ذلك الاختلاف كان اختلافاً في الوسيلة وليس في الهدف، فالهدف ثابت في كلتا الحالتين، غير أن المواجهة، وتنفيذ عملية التصفية في مكان عام على مرأى ومسمع من الناس لم يكن مناسباً، الأمر الذي جعل المنفذ يتراجع قبل التنفيذ كما جاء في تقارير الشرطة بعد ذلك.
ولعله من اللافت للانتباه أن هذه الفتاة قد وصلت إلى المعرض، وطلبت نسخة من الكتاب بعد أن غادر الشاب مباشرة، فلم يكن يفصل بينهما فاصل، وهو ما يوحي أنهما كانا معاً، أو أنهما قد تلقيا اتصالات متشابهة للذهاب إلى المعرض، وأن تقديم الشاب عليها إنما كان تجربة ليس أكثر، ويعني أن التوقيت لم يكن مصادفة وإنما كان مقصوداً لذاته يؤذن بالوجهة التي سيتحرك فيها السرد.
هذا الكشف لواقع شخصية «لوليتا»، وللغرض من اتصالها به، ودخولها إليه يدفعنا للشك بكل ما قالته عن أبيها، وعلاقتها به، وسبب انتقالها إلى فرنسا، مادامت على اتصال بهذه الجماعات، وربما تعيش تحت كنفهم وفي حراستهم، خاصة وأنها ذكرت من قبل أن الجو الذي عاشت فيه أول عمرها كان على صلة جيدة بهم، فوالدها هو الذي حجب نساء الجزائر -على حد قولها- وقد رأته أكثر من مرة يتعامل مع الجماعات التي تحمل السلاح فيعطيهم أكياسا مليئة بالنقود كما تظن، في الجزائر بعد أن كان يستقبلهم في الخفاء في منزلهم في إندونيسيا. كما الشك في كل ما تظهره من أفعال في تطوافها في الكنائس، ومحال العبادة، وكل ما تقوله له، أو تفعله بوصفه يعبر عنها ما دام اتصالها للقيام بوظيفة معينة.
وإذا كانت قد قالت هذا لأنها تريد أن تكشف ذلك للعالم المزيف الذي ينتمي إليه والدها، حيث التناقض الرهيب بين ما يظهره للناس أو يدعي أنه يفعله لهم، وما يعيشه على وجه الحقيقة حين قام باغتصابها، ومن ثم كشف زيف خطاب المتطرفين، فإنه يمكن اعتبار هذا الكلام للتعمية والتمويه لتحقيق ما تريد أن تصل إليه كما هو في الوظيفة المحددة التي تنهض بها.