صباح الخير:
كيف أصبحتِ؟ أما أنا فأصبحت على حياة ماتعة، وشتاء لذيذ، ورائحة القهوة والخبز تنتشر في المنزل، ومارسيل خليفة يدندن بقصيدة محمود درويش: «أحن إلى خبز أمي، وقهوة أمي، وتكبر فيّ الطفولة يوماً على صدر يوم، وأعشق عمري، لأني إذا مت أخجل من دمع أمي».
هل أخبرتك أني عرضت على صغيري مقالتي عنه؟ نعم، ولم أستطع أن أكملها حتى قال لي بغضب ممزوج بخوف: لم تخبرهن عن حديثي هذا؟ سوف يعتقدن أني شخص لا يعرف الإسلام ويحتاج إلى رسول كي يؤمن! قلت له: انتظر حتى أكمل المقالة فقد أخبرتهن أنك أسلمت وأن هذه أسئلة شخص ذكي، يجب أن تكون فخوراً بنفسك، قال: هذا لا يهم لا أريدهن أن يسئن الظن بي، ولا أريد أن تخبريهن عن أسئلتي عن الله أخبريهن عن كل شيء إلا عن هذا. وها أنا أكتب إليك وقد نزلت على وعده ألا أثير مسائله الوجودية.
صغيري يعاني من صعوبة في نطق أحد الأحرف، وهو يرى في هذا حرجاً شديداً، فهو شديد الحساسية والناس لا ترحم. فالبعض يشرن إلى لثغته بسخرية وهو صامت لا يجيب، ولم يحدث أن اشتكى إلي من هذا الأمر فظننت أن الأمر لا يؤثر فيه، حتى جاء ذلك اليوم وكنا في السوق، وقد أغلقت المحلات لصلاة المغرب فجلسنا ننتظر ونحن نستمع لإمام يقرأ في مسجد قريب؛ فإذ بصغيري يهمس لي: أمي هل سمعت؟ إن الإمام لا يستطيع نطق حرف الراء مثلي! وكان صادقاً. لقد آلمتني هذه الحادثة وما زالت تؤلمني كلما تذكرتها، لقد كان يتوجّع لكنه يدّعي عدم الاكتراث!
إني أتلذذ بأسئلته ومواضيعه وذكائه بارك الله فيه وله وبه، لكن حين يسألني عن هذا الشأن لا أعرف كيف أجيب! قال لي قبل أيام: أمي إن فلاناً يسخر من نطقي للراء - وكانت هذه أول مرة يشتكي لي فيها من هذا الأمر - فقلت: أخبره أن نبي الله موسى كان لا يستطيع نطق بعض الأحرف أيضاً وقد اختاره الله نبياً فإن كان سيسخر منك فليسخر من موسى أولاً فقد كان مثلك، هل يستطيع؟ فقال لي صغيري بلهجته الطفولية التي أحبها: «النبي موسى ما يقدر ينطق بعض الحروف مثلي؟ أحلفي؟ طيب كيف استطاع أن يُفهم الناس رسالته إن كان لا يستطيع نطق بعض الأحرف؟» فقلت: لقد أرسل الله معه أخاه هارون، فقال: أرأيت؟ لقد أرسل الله معه هارون أما أنا فلم يرسل الله معي أحداً ليفهموا حديثي! كتمت الضحك بصعوبة وأخبرته أن حديثه مفهوم؛ لأن الحرف الذي لا ينطقه واحد أما النبي موسى فلعله كان لا يستطيع نطق أحرف كثيرة؛ فاقتنع!
أظن أن البعض لا يعلمن مدى تأثير سخريتهن في نفس من يسخرن منه، لا أدري كيف يستطعن الهزء بمن يعاني ويضعنها في دائرة المزاح؟ ألا يكفيهن معاناته عن هزئهن؟ قد يسخرن من هيئة، أو فقر، أو بؤس، أو مرض دون اكتراث بتأثير ما يقلنه فيه!
إني أقولها من باب التجربة الشخصية فقد خاض صغيري آلاماً مع بعض الأدوات الطبية بمحض إرادته فقط ليستطيع النطق السليم لحرف الراء، ولم يستطع. وما زال يسألني إن كان ثم علاج له مهما كلف الأمر! حين أرى هذه الأسئلة والبحث المتصل لهذا الطفل الصغير يعتصرني الألم؛ لأن سببه الوحيد في خوض هذه التجارب المؤلمة أن يتجنب آلام خوضهن في شأنه والسخرية من نطقه. فترفقن وارحمن.
أما بعد:
ولأني كنت أخشى أن لا يقبل صغيري الإعلان عن هذا الأمر سألته قبل قليل إن كان يسمح لي بنشرها، فقال: لن أسمح إلا بشرط، أن تعطيني الهاتف النقال أستمع به إلى شيلة «آل ضاعن» وأنا أمشي، فوافقت. وها أنا أضع الجملة الأخيرة للمقالة وأنا أسمع قرع نعليه في فناء المنزل تحت صخب الشيلة. وهذه إحدى هواياته الغريبة أيضاً. أظنني سأنضم إليه. طاب صباحك.
- مها الحميضان