ياسر صالح البهيجان
تتجه المجتمعات المتحضرة إلى التعبير عن طاقات أفرادها الإبداعية عبر تشكلات فنية متعددة، تتجاوز بمفهوم الفن من النظرة التقليدية التي ترى فيه مجرد سلوك مترف فارغ من أي دلالات فكرية إلى حالة ثقافية ديناميكية تكشف معوقات الواقع وتستشرف آفاق المستقبل.
الاحتفاء بالإبداع ومنتجيه يمثل ركيزة رئيسة لدى أي مجتمع يروم إحداث نقلة نوعيّة حضاريّة تجعله ضمن دائرة المجتمعات المنتجة والفاعلة والمؤثرة في التاريخ البشري وتطوراته المعرفية والفكرية، ذلك التاريخ الذي عادة ما تكتبه عقول استثنائية وجدت بيئة محفزة مكنتها من بلورة رؤاها من مجرد أفكار متناثرة إلى واقع ملموس ينطلق من المجتمع وإليه، ويتناول مشكلاته الراهنة ويضع حلولا مبتكرة لمعالجتها ضمن أطر علميّة ومنهجية تعيد توظيف الظروف الاجتماعيّة والموروث ليصبح أكثر قدرة على مساير المتغيرات والانسجام معها.
والسؤال حول أثر الفن بكافة أنماطه في المجتمعات لم يعد سؤالا فلسفيًا تلوكه عقول المفكرين وعلماء النفس والاجتماع، بل تحوّل في العصر الحديث إلى صناعة فاعلة ومنتجة وسلاح نافذ توظفه الحكومات والقوى الاجتماعية والاقتصادية لتوجيه الرأي العام المحلي والدولي لخدمة المصالح الوطنية، كحال الولايات المتحدة الأمريكية واستوديوهات هوليود السينمائية التي كانت سببًا رئيسًا في صعود واشنطن كقوة عالمية أولى، إذ اجتاحت بمفهوم «السوبر مان» خرائط البشر الذهنيّة، وأعلت من شأن الفرد الأمريكي لتجسّده سينمائيًا على أنه إنسان يمتلك زمام القوّة والتأثير وصناعة القرار.
تنمية السلوك الإبداعي خطوة هامة لبناء مجتمعات واعية ومفكرة، والفن يعد إحدى أوسع بوابات الإبداع، وليس من المنطقي الاستمرار في تجفيف منابعه، أو الوقوف حياله موقف التوجس والتردد في زمن أخذت فيه الفنون دور الريادة في التربية وتقويم السلوك وتغذية الفكر، بل بات الفن جزءًا من مناهج التعليم لدى الدول المتقدمة لما يتضمنه من قدرات وتقنيات تجعل من العملية التعليمية أكثر تأثيرًا وفاعلية.
المؤسسات التعليمية في المملكة سابقًا كانت تحتفي بالمسرح، وتقيم المهرجانات التمثيلية داخل صالاتها، ولا تخجل من عرض فيلم سينمائي لعمر المختار إبان محاربته للاستعمار الإيطالي في ليبيا، وغيرها من الأفلام الوثائقية التي لا يزال صداها كامنا في نفوس ذلك الجيل من الدارسين، وعودة تلك الفعاليات تعد ضرورة يفرضها الواقع لبناء جيل شاب يمتلك خبرات ومهارات تتجاوز مبادئ التلقين، وتحفز عقله لرؤية محيطه بطرق إبداعية.
الفن والإبداع سمتان متلازمتان داخل ذهنيّة أي مجتمع حديث، ولا يمكن إخضاعهما لسيطرة مؤسسة بعينها أو جمعية حكومية كانت أو أهلية، بل هما حالة فكرية حميدة تنشأ وفق ظروف اجتماعية صحية تعلي من شأنهما، وتعزز من الاتجاه نحوهما بوصفهما قيمة حضارية لا تنفكان عن قيم حرية التعبير المسؤولة، كما أنهما سلوكياتهما لا تعني التمرد على قيم المجتمع وعاداته بقدر تمثل نظرة جديدة لتلك القيم قد تصل أحيانًا حد السخرية منها سعيًا لإصلاح اعوجاجها وليس لازدرائها والانتقاص منها.