د.أحمد بن عثمان التويجري
رحم الله الأمير الصالح محمد الفيصل آل سعود رحمة واسعة، وتغمده بعفوه وكرمه، وأنزله منازل الصديقين والشهداء والصالحين، وعوّض المملكة والأمة فيه خيراً إنه سميع مجيب.
كان أميراً بنبله ومكارم أخلاقه قبل كونه أميراً بنسبه، ولم تزده الإمارة إلا تواضعاً، ولَكَم زيّنها بخلقه وسيرته الحميدة وأعماله المجيدة. لم يحرص على الأضواء والظهور الإعلامي على الرغم من قدراته الذاتية المتميزة، وشخصيته المؤثرة والجذابة، وأهمية القضايا التي كان يتبناها. كان من أوائل من اهتموا بالمصرفية الإسلامية، فقد حمل لواءها طيلة حياته حتى أصبحت لا تعرف إلا به ولا يعرف إلا بها. أسس بنك فيصل الإسلامي في مصر والسودان والبحرين وما تفرع عنها في كثير من مناطق العالم، وأسس الشركة الإسلامية للاستثمار الخليجي التي كانت الذراع الاستثماري لبنوك فيصل، كما أسس دار المال الإسلامي في سويسرا عام 1981م التي شملت أعمالها الخدمات المصرفية الإسلامية، والاستثمار الإسلامي، والتأمين الإسلامي، إلى جانب إنشائه بنوكاً وشركات استثمار وشركات تأمين إسلامية مختلفة في مناطق عدة من العالم.
كان حلمه الأعظم أن تتوافق التعاملات المالية في المجتمعات الإسلامية مع قيم الإسلام ومبادئه، ومع الرؤية الإيمانية للثروة والمال المبنية على نظرية الاستخلاف في الأرض، وكان يسعى بكل ما يستطيع لتطوير المؤسسات المالية في البلاد الإسلامية لتكون منافسة لنظيراتها في العالم أملاً في تحقيق وحدة اقتصادية إسلامية، واستقلالاً حقيقياً للأمة عن الهيمنة الغربية في هذا المجال.
عندما تقدم في مطلع السبعينيات الميلادية بطلب إلى السلطات السعودية للترخيص لإنشاء أول بنك إسلامي، طلب منه والده الملك الشهيد فيصل بن عبد العزيز - رحمه الله - أن يحصل أولاً على موافقة من دار الإفتاء، وقد أبلغني من أثق به وكان يعمل في دار الإفتاء في ذلك الحين، أنه طالما رآه يتردد على الدار يدافع عن مشروعية مشروعه ويبيّن مزاياه وعوائده الخيرة على الوطن والأمة، حتى تحقق مطلبه، لكنه واجه - رحمه الله - عقبات بعد ذلك ليس هذا مقام بسطها.
على الرغم من نجاحات كثير من تجارب المصارف الإسلامية، إلا أن أخطاء بعض المؤسسات المالية التي وصفت بالإسلامية ألقت بظلال الشكوك حول التجربة بوجه عام وحالت دون انتشارها كما كان مؤملاً، وقد كانت هذه الحقيقة مصدر ألم كبير للأمير محمد - رحمه الله - ولرفقاء دربه من رواد المصرفية الإسلامية، ولم تتغير هذه النظرة السلبية بشكل جذري إلا عندما وقعت الأزمة المالية العالمية عام 2008م، حيث أظهرت قوة ومتانة المصارف الإسلامية وقدرتها على مواجهة مثل تلك الأزمة، فقد أثبتت دراسة قام بها صندوق النقد الدولي ونشرها في 4 أكتوبر عام 2010م، أن المصارف الإسلامية كانت أكثر قدرة من المصارف التقليدية على مواجهة الأزمة، وأنها حققت خلال الأزمة أرباحاً أعلى بكثير من نظيراتها التقليدية رغم ما كانت تواجهه من عقبات وتحديات، وما أجدر الأمير محمد - رحمه الله - بأن يناله أجر هذا الإنجاز الكبير وشرفه.
خاض حرباً ضروساً بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر للدفاع عن الكيانات المصرفية الإسلامية والمؤسسات المرتبطة بها، وواجه بشجاعة وثبات حملات التشويه التي وجهت ضد كل ما هو إسلامي، وبخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، التي كانت تسعى إلى ربط الإسلام والمسلمين بالعنف والإرهاب، وقد تمكن بعد جهاد طويل من كسب جميع المعارك القانونية التي خاضها في ذلك الشأن - رحمه الله -.
حمل هم التعليم في وقت مبكر وكان يرى أن مستقبل الأمة مرهون بتخريج أجيال مؤمنة تلقت تعليماً وتربية إسلاميين نقيين، فأنشأ وشارك في إنشاء كثير من المدارس الإسلامية في البلاد العربية والإسلامية، ومن بواكير أعماله في هذا المجال تأسيسه لمدارس المنارات التي اشتهرت بانضباطها وقوة برامجها في كثير من مناطق المملكة، كما اشتهرت بإنشائها أقساماً عالمية لغير الناطقين باللغة العربية. وقد تولى - رحمه الله - منصب رئيس الاتحاد العالمي للمدارس العربية الإسلامية منذ إنشائه عام 1976م.
تولّى منصب أمين مؤسسة الفيصل، ثم تولى منصب رئيس الهيئة العامة لتحلية المياه المالحة، وكان حلمه أن تواجه المملكة مشكلات ندرة المياه فيها من خلال الاستفادة من جبال الجليد في منطقة القطب الشمالي، معتمداً في ذلك على دراسات علمية أجريت في جامعات مرموقة، لكن عقبات كثيرة حالت دون تحقيق حلمه في هذا الشأن، ولو عمل بمقترحاته - رحمه الله - لما استنزفت المياه الجوفية في الجزيرة العربية.
كل من عرفه عن قرب عرف فيه التواضع والصدق والغيرة على الدين والأمة، وكل من عمل معه وجد فيه علوّ الهمةِ والترفّع عن صغائر الأمور، فقد كان رحمه الله كبيراً في خلقه واهتماماته، وسابقاً لزمانه وجيله، وسيذكره التاريخ رائداً من رواد الاقتصاد الإسلامي والمصرفية الإسلامية، ورائداً من رواد التربية والتعليم الإسلاميين.
رحمه الله رحمة واسعة، وجزاه عنا وعن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وجبر مصاب المملكة والأمة فيه، وأحسن عزاء أُسرته وعزاءنا في فقده و(إنا لله وإنا إليه راجعون).