عندما تفيض المشاعر بالأسى على فراق محبوب أو فقد غال فإن الوسيلة المستطاعة للخلاص من تلك المعاناة هو التعبير واستلهام الذكريات، فالموت حكمة الله في خلقه وهو منطق الوجود حتى ولو لم نرحب به أو نبتهج بقدومه، إن الموت راحة للعبد بعد عناء ورحلة شاقة وطويلة في هذه الحياة، وإذا كان الموت قد طوى حياة الكثير من البشر إلا أنه مع ذلك لم يستطع ان ينهي الذكريات، حين فجعت بنبأ رحيل الوالد العظيم ملك علي الحزن فالتاع قلبي وخفق فؤادي وفاضت عيني بالدمع أو ليس بعد رحيل الأب مصيبة، غير أنني أدركت أن الكتاب قد بلغ أجله فواسيت نفسي مذكراً إياها ان تلك إرادة الله رحل رحيلاً عن هذه الدنيا الفانية إلى دار الخلود الباقية راجياً رحمة ربه التي وسعت كل شيء.
زارني صديق عزيز فوجدني حاشراً نفسي في ركن قصي من المجلس، غارقاً في بحر ذكريات سعيدة حزينة.. سعيدة لأنني كنت أسترجع شريط حياتي وأنا طفل صغير، أقفز هنا وهناك، ثم أركض لأرتمي في حضن والدي، الراحل الكبير الشيخ عبد الرحمن بن سليمان بن عبد الرحمن الرويشد، رحمه الله وغفر له، وأسكنه فسيح جناته مع الأنبياء والشهداء والصالحين، عميد أسرتنا وعمود خيمتنا؛ فتأتيني ضحكته المعهودة، التي تزيل الهم وتشرح الصدر وتبعث فيها الطمأنينة وتشيع فيها الأمن. ثم أرى السعادة تعلو محيَّاه وهو يقدم لي ثوباً جديداً، ويصطحبني إلى المدرسة، ويخاف عليَّ من البرد والشمس والسيارات التي تجوب الشوارع مسرعة، بل حتى من الأرض التي أمشي عليها، كما هي شفقة كل أب على فلذة كبده. أتذكر سهره إلى جوار فراشي عندما تعتل صحتي، ومدى فرحته التي لا توصف بعافيتي، ونجاحي في الدراسة، واستلامي العمل، وزواجي، وطفلي الأول، وسفري وعودتي، وكل تفاصيل حياتي، التي كان والدي سبباً بعد الله، في سعادتها بتعبه وسهره من أجل تحقيقها.
ذكريات حزينة لأنني كنت أرى وسط تلك الذكريات دموعه الغزيرة التي كانت تغسل وجهه الصبوح عندما أبكي بحثاً عن والدتي العزيزة الغالية التي سبقت والدي الحبيب إلى دار الخلود؛ وهو يعرف تعلقي بها، لكنه كان يدرك، وهو الرجل المؤمن العالم، صعوبة استيعاب طفل في مثل سني تلك، لحقيقة الموت والرحيل وفقدان أعزَّ الناس.. رحلت والدتي، رحمها الله وأسكنها فسيح جناته، وأنا طفل صغير؛ فبذل والدي قصارى جهده، مع ما كان يقوم به من أعمال وأعباء بمفرده، لكي يعوضني ولو شيئاً يسيراً من حنان الأمومة وعطفها ومشاعرها الفياضة، مع أن زوجته، تلك المرأة الصالحة الطيبة الكريمة، لم تقصر في رعايتنا والاهتمام بنا، والعطف علينا والشفقة بنا. فقد كانت، وما زالت وستظل إن شاء الله، نعم الخلف. ولأنها أم أيضاً، فقد كانت تدرك جيداً حاجة طفل صغير مثلي لأمه؛ ولهذا كنت شغلها الشاغل، فجزاها الله كل خير وبارك فيها ووفقنا للبر بها. لكن على كل حال، مهما وجد الطفل الصغير وحتى الكبير، من رعاية وعطف وحنان، يظل مكان أمه شاغراً في حياته، فتلك هي طبيعة البشر التي فطرهم الله عليها؛ ولعظم مكانة الأم، فقد جُعلت الجنة تحت أقدامها.
فكانت مهمة والدي صعبة معي، ولهذا كان تعلقي به شديداً، حتى بعد أن كبرت وصرت رجلاً وتزوجت وأنجبت فأدركت معنى الأبوة العظيمة، عندما رزقني الله بطفلي الأول الذي لم أتعب في إيجاد الاسم المناسب الذي كنت أتمناه له، لم تكن الفرحة تسعني عندما زفُّوا لي خبر ولادته؛ فأسميته على اسم والدي (عبد الرحمن)، تيمناً وحباً ووفاءً وبرا برجل كبير، ظل يمثل كل شيء في حياتي حتى يوم رحيله عن هذه الدنيا الفانية إلى دار الخلود الباقية، بل سيظل كذلك إلى الأبد.
وجدني صديقي على تلك الحال، فحاول مواساتي والتخفيف عني، لأنه يدرك مكانة والدي عندي، إذ كان كل شيء في حياتي، وتلك العلاقة الاستثنائية النادرة المتميزة التي تربطني به. فقال لي: لا تحزن يا أبا عبد الرحمن، لقد ترك لك والدك إرثاً يفخر به كل ابن بار مثلك، ويكفي أن الوطن كله نعاه وعزَّاكم في رحيله. وقبل هذا، زاره خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، حفظه الله ورعاه، في المستشفى، وتشرفتم باستقباله لكم وتعزيتكم فيه. فقلت لصديقي: وكيف لا أحزن على والدٍ عزيزٍ غالٍ، ترك لي كل هذا الإرث والفخر والاعتزاز؛ وشرَّفه خادم الحرمين الشريفين، سيدي الوالد الملك سلمان بن عبد العزيز، حفظه الله ورعاه، بالزيارة وشرَّفنا بالعزاء فيه. وقبل هذا وذاك، تقدير مقامه السامي الكريم له في حياته، ومنحه الجوائز، وقلَّده الأوسمة والنياشين؛ فأي فخر أعظم من هذا يخلفه راحل عن هذه الدنيا الفانية لورثته.
لقد ورث والدي، رحمه الله وغفر له، شرف خدمة هذه الأسرة المالكة الكريمة المباركة من آبائه وأجداده، فجاء يمشي على خطاهم في الصدق والوفاء والإخلاص والولاء لقادة عظماء، حكَّموا شرع الله سبحانه وتعالى وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبسطوا الأمن، وأشاعوا العدل، ونذروا أنفسهم لخدمة الدِّين والوطن والشعب والمسلمين، حتى أصبحنا في هذه البلاد المباركة نعيش في ظل لحمة وطنية بين القيادة الوفية والشعب المخلص، لا أعرف لها مثيلاً في تاريخ العالم اليوم.
غرق والدي -رحمه الله- في القراءة والبحث والتوثيق والتأليف والتحقيق والطباعة والنشر والتأليف والتوزيع، لتاريخ قادتنا الكرام ودولتنا القوية المباركة؛ وكان يمارس هذا العمل وفاءً وإخلاصاً وحباً بلغ مرحلة الشغف؛ فلم يكن يجد متعة في شيء بعد الصلاة في غير الاشتغال بالتاريخ؛ فكنت أحياناً أدخل عليه مكتبه وهو منكبٌّ على العمل، وأجلس ثم أغادر دون أن يشعر بي، لأنني لا أحب أن أقطع عليه عمله الذي يوليه عادة كل تركيزه وتفكيره. شديد الاهتمام بالأحداث، مشغولاً بوحدة العرب، حزيناً على تشرذمهم وتفرقهم واختلاف كلمتهم؛ متمنياً دائماً لهذه الأمة العزَّ والتمكين؛ ولهذا كانت له علاقات واسعة بشخصيات مرموقة في التاريخ والأدب والسياسة من كل البلدان العربية تقريباً؛ فضلاً عن علاقاته الواسعة بطائفة كبيرة من وجهاء المجتمع السعودي، الذين شرفونا في مجلس عزائه.
أما على صعيد الأسرة، فقد كان الوالد العزيز الغالي، صاحب القلب الكبير، رحمه الله وغفر له وتجاوز عنه وأسكنه فسيح جناته، شديد الاهتمام بجميع أفرادها، على مستوى العائلة الصغيرة والأسرة الكبيرة؛ يرحم الصغير ويوقر الكبير ويواسي المكلوم، ويزور المريض، ويفرح للسعيد، ويساعد المحتاج، ويحث الجميع على صلة الرحم والتعاطف والتراحم والتواد والتعاضد في الفرح والحزن.
كما كان شديد الاهتمام بتعليمنا وتثقيفنا وتوسيع مداركنا وتشجيعنا على الاستفادة من الوقت وتقدير قيمة العمل ومساعدة المحتاجين. وقبل هذا وذاك، الالتزام بتعاليم الدين الحنيف والإخلاص لعقيدتنا والوفاء لقيادتنا والحرص على خدمة بلادنا، والتفاني في ذلك كله.
والحقيقة، مهما كتبت عن هذا الرجل العالم الفاضل النبيل، نبع الحنان ومصدر الفخر والاعتزاز والامتنان، الذي كان بحق منارة شامخة للعلم وشجرة سامقة للخير، أجدني عاجزاً عن الوفاء، ولو بقدر ضئيل جداً من كثير حقه علينا. لكنها على كل حال مشاعر أجَّجها رحيل رجل كبير عظيم، اجتاحت النفس المكلومة، فأفرغتها في هذه العجالة، تخليداً لأجمل ذكرى في حياتي، وبرَّاً بأعظم والد في نظري.
فالعزاء لسيدي خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، حفظه الله ورعاه، أبو اليتامى والفقراء والمساكين وكل المواطنين الذي نعرف قدر الوالد عنده؛ والشكر والتقدير والامتنان لمقامه السامي الكريم لاستقباله لنا وتعزيته، وسيظل ما ذكره في حق الوالد من ثناء وتقدير له، محل فخرنا واعتزازنا إلى الأبد. والشكر والتقدير قبل هذا لمقامه السامي لتكريمه الوالد في حياته وزيارته له في مرضه وسؤاله الدائم عنه.
وأجدها سانحة مؤاتية بهذه المناسبة، ووطننا يحتفي هذه الأيام بذكرى البيعة المباركة الثالثة لسيدي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان، حفظه الله ورعاه، أن أهنئه وأجدد العهد والوعد نيابة عن الأسرة، أن نظل على خطى الوالد الراحل الكبير الشيخ عبد الرحمن بن سليمان بن عبد الرحمن الرويشد، في الولاء للعقيدة والوفاء للقيادة الصادقة الرشيدة، والإخلاص لهذا الوطن العزيز الغالي المعطاء، فنكون سلاماً لكل من سالمه وسناناً في نحر كل من عاداه واستهدفه بقول أو فعل. ومع شدة الفقد وفداحة المصيبة، إلا أني على يقين تام أن من كان قائده سلمان، فلن يعرف معنى اليتم ولن ترهبه عاديات "الحدثان".
والعزاء موصول لأمير منطقة الرياض، صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن بندر بن عبد العزيز آل سعود، مع جزيل الشكر والتقدير على تفضله بالتوجيه بتسمية أحد شوارع مدينة الرياض باسم الوالد، الذي رحل بجسده وترك روحه في شوارع الرياض وأحيائها العتيقة وأسواقها القديمة وأزقتها وأسوارها التي ستظل تفتقده كثيراً. والعزاء لصاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نايف بن عبد العزيز آل سعود ولي العهد، وإلى صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود ولي ولي العهد، في فقيد الوطن.
والعزاء لأعمامي الأعزاء ولأخي الكبير ولزوجة الوالد الشهمة الكريمة التي ستظل الأم والوالد لنا جميعاً، سائلاً الله أن يوفقنا دائماً للبر بها، ولأخواتي ولجميع أفراد الأسرة، وللوطن كله إنساناً ومكاناً، بل لكل ذرة رمل فيه، في رحيل رجل كبير نذر حياته كلها من أجل خدمة الجميع.
مبتهلاً إلى الله العلي القدير أن يرحم والدي الحبيب، ويغفر له، ويتجاوز عنه، ويجزل مثوبته، ويجعله في أعلى مراتب الجنة. وأن يربط على قلبنا ولا يحرمنا أجر الصبر على فقده، وأن يجعلنا من الصابرين الذين بشَّرهم بقوله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}. وأن يعيننا على صون ما خلَّفه لنا والدنا من إرث عظيم، ويساعدنا على توريثه للأجيال القادمة، لتعرف تاريخ بلادها وجهد رجالها المخلصين الأوفياء، فيحرص الجميع على السير على دربهم. فالكل لا محالة راحل، ويبقى الوطن للجميع.
وفي الختام، أتقدم بجزيل الشكر والتقدير لكل من زار الوالد في مرضه بالمستشفى أو المنزل، ولكل من اتصل للسؤال عنه والاطمئنان على صحته، وعلى رأسهم سيدي خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، حفظه الله ورعاه؛ والشكر موصول أيضاً لكل من شرَّفنا بالحضور في مجلس عزائه أو اتصل عبر الهاتف أو الفاكس لظروفه أو وجوده بعيداً عن أرض الوطن، ولكل من كتب راثياً له،كما أننا الآن بصدد توثيق لسيرة الوالد من خلال جمع كل ما كتب عنه.
ونتقدم بجزيل الشكر والتقديرلكل من كتب عنه أوله ذكريات مع الوالد أومعلومات أومواقف يظن أنها قد تغيب عنا أن يتكرم بإرسالها على البريد الإلكتروني: ruaibr@gmail.com, فذلك هو أقل الواجب في حقِّه علينا، فمن تواضعه، رحمه الله وغفر له، أنه لم يكتب حتى سطراً واحداً عن سيرته الذاتية في أي مؤلف من مؤلفاته العديدة، كما يفعل عادة معظم الكتاب والمؤلفين؛ فمن حقِّه علينا أن نحفظ سيرته للأجيال القادمة.. سائلاً الله الكريم ألا يري أحداً مكروهاً في عزيز لديه.
يقول أبو العتاهية:
إن الطبيب بطبه ودوائه..
لا يستطيع دفع موتٍ قد أتى
ما للطبيب يموت بالداء الذي..
قد كان أبرأ مثله فيما مضى
مات المداوي والمداوى الذي..
جلب الدواء وباعه ومن اشترى
أما وقد استأثرت قدرة الله التي لا راد لها فلله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بمقدار ولا نملك إلا أن نقول "رحمك الله يا والدي رحمة واسعة وأسكنك فسيح جناته وجبر مصيبتنا وألهم أهل بيتك الصبر والسلوان، و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}".
- عبدالعزيز بن عبدالرحمن الرويشد