الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
طالبت دراسة بحثية بضرورة كشف خطورة التكفير وقطع الطريق على المتربصين، والمتعالمين وتوضيح الحق في هذه المسألة التي احتاط لها الشرع في إطلاقها احتياطاً شديداً فأوجب التثبت، حتى لا يتهم مسلم بكفر، وحتى لا تستباح أموال الناس وأعراضهم بمجرد الظن والهوى، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النساء:94] فحذرهم من التسرع في التكفير، وأمرهم بالتثبت في حق من ظهرت منه علامات الإسلام في موطن ليس أهله بمسلمين.
وقال الباحث خالد بن حمد الخريف في دراسته البحثية «التكفير أحكامه وآثاره» إن مما يدل على احتياط الشرع في التكفير، إيجابه التحقق من وجود شروط التكفير وانتفاء موانعه، فلا يجوز تكفير معين إلا بعد التحقق من ذلك تحققاً أكيداً بعيداً عن التعصب والهوى، وأناط حكم ذلك وإنفاذه بالعلماء والقضاة الحاكمين بالشريعة، مشيراً إلى أنه مما يوضح خطورة التكفير العلم بالآثار المترتبة عليه فمنها: أنَّه لا يحل لزوجته البقاءُ معه، ويجب أن يُفَرَّقَ بينها وبينه؛ لأن المسلمة لا يصح أن تكون زوجة لكافر بالإجماع المتيقَّن، وأنَّ أولاده لا يجوز أن يبقوا تحت سلطانه؛ لأنَّه لا يُؤتَمَن عليهم، ويُخشى أن يُؤثِّر عليهم بكفره، وبخاصة أن عُودَهم طريّ، وهم أمانة في عنق المجتمع الإسلامي كله، وأنَّه فقد حق الولاية والنُّصرة من المجتمع الإسلامي بعد أن مرق منه وخرج عليه بالكفر الصريح، والرِّدَّة البَوَاح. ولهذا يجب أن يُقاطع، ويُفرَض عليه حصار أدبي من المجتمع، حتى يفيق لنفسه، ويثوب إلى رشده، وأنَّه يجب أن يُحاكم أمام القضاء الإسلامي، ليُنفَّذَ فيه حكم المرتدِّ، بعد أن يُستتاب وتُزال من ذهنه الشبهات وتُقام عليه الحجة، وأنَّه إذا مات لا تُجرى عليه أحكام المسلمين، فلا يُغسَّل، ولا يُصلَّى عليه، ولا يُدفن في مقابر المسلمين، ولا يُورث، كما أنه لا يرث إذا مات مورِّث له، وأنَّه إذا مات على حاله من الكفر يستوجب لعنة الله وطرده من رحمته، والخلود الأبدي في نار جهنم، وهذه الأحكام الخطيرة توجب على من يتصدَّى للحكم بتكفير خلق الله أن يتريَّث مرات ومرات قبل أن يقول ما يقول، وأنَّه لا يُدعَى له بالرَّحمة، ولا يُستغفر له؛ لقوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}. قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي- رحمه الله-: ((الكفر حق الله ورسوله، فلا كافر إلا من كفَّره الله ورسوله)).
وتابع الباحث خالد الخريف حديثه بتناول آثار التكفير في الأمة وما جره على الأمة الإسلامية من محن وشرور عانت منها الأمة الإسلامية منذ سنين طويلة، ومن أعظمها طمس معالم الدين وتشويه صورته أمام العالم وقلب الموازين، وإظهار الدين وكأنه دين القتل وسفك الدماء، وكأنه أيضاً دين خفر العهود وهو في الحقيقة عكس ذلك تماماً، ويؤدي أيضاً في النهاية إلى تغيير الدين وطمس معالمه لأن التكفير بغير علم من القول على الله بلا علم، وهذا ما أشار إليه العلامة ابن القيم - رحمه الله - عند كلامه على آثار القول على الله بغير علم حيث يقول: (فإنه يتضمن الكذب على الله ونسبته إلى ما لا يليق وتغيير دينه وتبديله ونفي ما أثبته وإثبات ما نفاه وتحقيق ما أبطله وإبطال ما حققه، وعداوة من والاه، وموالاة من عاداه، وحب ما أبغضه وبغض ما أحبه، ووصفه بما لا يليق به في ذاته وصفاته وأقواله وأفعاله).
فهذا مما يحثنا على طلب العلم النافع، والأخذ عن العلماء الراسخين في العلم، والحذر كل الحذر من الأدعياء والمتعالمين الذين يفتون الناس على غير علم، بل بمجرد الأهواء المنحرفة، فيؤدي ذلك إلى الضلال والإضلال،.
ومن آثار التكفير - والحديث للباحث خالد الخريف - الخروج على الأئمة ومنابذتهم وقتالهم، وكذلك التحريض عليهم، وعدم السمع والطاعة لهم في المعروف، وهذا الأثر خطير جداً يؤدي في النهاية إلى فتن عظيمة وسفك للدماء المعصومة، بل الواجب على المسلم السمع والطاعة على لولاة الأمر وإن جاروا وظلموا كما هي عقيدة أهل السنة والجماعة، وقد وردت أحاديث كثيرة توجب على المسلم السمع والطاعة لولي الأمر المسلم في المعروف، وإن جار أو ظلم، وأمرنا بالصبر عليهم كما جاء في الحديث الصحيح فعن ابن عباس- رضي الله عنه- عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (من رأى من إمامه ما يكرهه فليصبر فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات فميتته جاهلية)، وفي رواية لمسلم (من كره من أميره شيئاً فليصبر عليه، فإنه ليس من أحد من الناس خرج على السلطان شبراً، فمات عليه، إلا مات ميتة جاهلية).
قال ابن أبي جمرة (المراد بالمفارقة السعي في حل عقدة البيعة التي حصلت لذلك الأمير، ولو بأدنى شيء، فكنى عنها بمقدار الشبر، لأن الأخذ في ذلك يؤول إلى سفك الدماء بغير حق).
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى: ((... ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعو عليهم، ولا ننزع يدًا من طاعة، ونرى طاعتهم من طاعة الله فريضة، ما لم يأمروا بمعصيةٍ وندعو لهم بالصلاح والمعافاة...))
قال ابن رجب رحمه الله تعالى: ((أما السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين، ففيها سعادة الدنيا، وبها تنتظم مصالح العباد في معايشهم، وبها يستعينون على إظهار دينهم، وطاعة ربهم)).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ((وقد استفاض وتقرر في غير هذا الموضع ما قد أمر به -صلى الله عليه وسلم -، من طاعة الأمراء في غير معصية الله، ومناصحتهم، والصبر عليهم في حكمهم، وقسمهم، والغزو معهم، والصلاة خلفهم، ونحو ذلك من متابعتهم في الحسنات التي لا يقوم بها إلاَّ هُم؛ فإنه من باب التعاون على البر والتقوى، وما نهى عنه من تصديقهم بكذبهم، وإعانتهم على ظلمهم، وطاعتهم في معصية الله ونحو ذلك، مما هو من باب التعاون على الإثم والعدوان)).
فهذا موقف أهل السنة والجماعة من جور السلطان، يقابلونه بالصبر والاحتساب ولا يقدمون على شيء مما نهى عنه الشرع المطهر من إثارة فتنة أو نزع يد من طاعة وعلى ذلك درج الأئمة - رحمهم الله تعالى - فلم يكونوا يخرجون على أئمة الجور.
وحسبك بالحجاج بن يوسف على ظلمه وقسوته ومع هذا لم يذكر عن أحد من الصحابة الخروج عليه، بل كانوا يصلون خلفه ويبغضون ما يأتي من المعاصي والظلم، ومنهم: ابن عمر، وابن عباس وأنس بن مالك - رضوان الله عنهم أجمعين وبهذا يتبين لنا:
إن ما يحدث من الخروج على الأئمة وما يتبع ذلك من نتائج سيئة من سفك للدماء، وإهلاك للحرث والنسل، والفتن العظيمة التي تترتب على الخروج على الأئمة ومنابذتهم، إن أعظم ما يؤدي إليه هو (التكفير واستحلال الدماء المعصومة).
ويتضح لنا ذلك جلياً في قصة الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - قال الإمام أبي عبد الله محمد بن مفلح - رحمه الله تعالى -: (قال حنبل: اجتماع فقهاء بغداد في ولاية الواثق إلى أبي عبد الله، وقالوا له: إن الأمر قد تفاقم وفشا، يعنون إظهار القول بخلق القرآن وغير ذلك، ولا نرضى بامرته ولا سلطانه، فناظرهم في ذلك، وقال عليكم بالإنكار بقلوبكم ولا تخلعوا يداً من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين معكم، وانظروا في عاقبة أمركم، واصبروا حتى يستريح برّ، أو يستراح من فاجر، وقال: ليس هذا بصواب، هذا خلاف الآثار.
وقال المروذي: (سمعت أبا عبد الله يأمر بكف الدماء وينكر الخروج إنكاراً شديداً).
فانظر- رحمك الله- إلى فقه هذا العالم، مع ما ناله من الأذى من السلطان والجلد على القول ببدعة خلق القرآن ومع ذلك نهاهم عن الخروج على ولي الأمر، فهذا من آثار العلماء المباركة على الأمة، وفتاويهم المستندة إلى النصوص الشرعية المستمدة من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ومما عليه سلف الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان بخلاف الفتوى المبنية على الجهل التي لم تستند إلى النصوص الشرعية ولا إلى نظر في العواقب، فإنها تؤدي إلى الدمار والهلاك والفتنة والقتال والحروب الطاحنة.
فالواجب على هؤلاء المتعالمين أن يكفوا عن غيهم وأن يتوبوا إلى ربهم ويعودوا إلى رشدهم.
وأوضح الباحث خالد الخريف أبرز آثار (التكفير) وبخاصة في هذه الأزمنة حيث تفجير المنشآت العامة وقتل للأنفس المعصومة المسلمة والمستأمنة، وإهلاك للحرث والنسل، لأن التكفير يؤدي إلى استحلال الدماء ومن ثم يقود الى التفجير وقتل الأنفس المعصومة. فقتل النفس بغير حق من أكبر الكبائر بعد الشرك بالله، ولا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً، وهو ذنب عظيم موجب للعقاب في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [النساء: 93].