نشأت الحياة في المدن القديمة على مبادئ عدة، من أهمها «التعايش» بين سكانها، و»التكامل» في مظاهر الاجتماع الإنساني؛ وبالتالي انعكس ذلك على تركيبتها التخطيطية والعمرانية والمعمارية لتلبية متطلبات «الخصائص البشرية» تلك، وتهيئة الأماكن التي تعزز من استمراريتها، والإيفاء باحتياجات أفرادها؛ إذ كان هذا «الاندماج» عنصرًا أساسيًّا في بناء النسيج الاجتماعي وما يرتبط به من «قيم» و»ثقافات» و»علاقات»، ساهمت في تأسيس جل الحضارات التي مرّت عبر التاريخ.
«ما عاد نشوف أحد».. كانت تلك إجابة عفوية، وبلهجة محلية من أحد كبار السن الذين قابلتهم، وسألته عن حاله وأحواله.. يقول إنه لم يعد يلتقي الناس، ويعيش عزلة كبيرة، ويطرح تساؤلاً حرجًا حينما يردد بصوته المنكسر «والله مدري وين الناس اختفوا»، مستذكرًا حياته السابقة التي قضاها بين هؤلاء الناس، وواصفًا إياها بقوله «منول، ما تفقد أحد». وعن وظائف المكان معبرًا «العير والمجابيب كانت مليانة من هالصغار، والمشراق ما تلقى لك فيه محل». مردفًا هذه الحيرة التي يعيشها باستنتاج «كلن صد، لكن الله يصلح الحال».
لعل هذا المسن لا يعلم أن الناس لم تختفِ، لكنهم تواروا، وحجبوا، ومنعتهم المدن الحديثة بتركيبتها الإقصائية من أن يلتقي أحدهم الآخر.. غاب الفراغ العمراني «الموظف»، وغاب معه الناس.. اختلفت معايير العمران، وهيمنت الحيازة الخاصة على الأراضي، وسيطرت السيارة على مناطق المشاة، وبنيت الجدران العازلة، وفقد المسجد وظيفته العمرانية، واندثر وسط المدينة، وانعزل الناس داخل منازلهم الكبيرة، ولم يعد ثمة أمل للقاء، حين تحولت المدن إلى حيزات انفرادية، يقضي الفرد بها عقوبة «المدنية» بتركيبتها المشوهة.
في نوفمبر الماضي سنحت فرصة عمل أن نستكشف الساحات الرئيسة في مدينة فلورانسا القديمة - كموقع تراث عالمي - مثل «السيادة، الدومو، سانتو سبيريتو، مايكل أنجلو، سانتا ماريا، ماريا نوفيلا...»، وغيرها من الساحات التي عادة ما يصفها أستاذنا الدكتور مشاري النعيم بـ»أماكن المصادفة». تحليل الوظائف العمرانية لهذه الأماكن يمنحها درجة عالية جدًّا من الأهمية على مستوى المدينة. إنها تمثل «قلوب» المدينة؛ إذ يجتمع الناس بكل أجناسهم، وأعمارهم، وأعراقهم، وطوائفهم، واهتماماتهم المختلفة. يلتقون، ويتعارفون، ويتحدثون، ويتسامرون.. يخرجون من عزلتهم إلى فضاء يعج بالحياة، والأمل، والتفاؤل، والحب.
على سبيل المثال، كثيرًا ما نتساءل عن سر اهتمام سكان المدن السعودية المطرد في السنوات الأخيرة بقضاء أوقات طويلة في محال الكوفي شوب والمطاعم، والتردد على أماكن الفعاليات والأسواق والحضور حتى في ساحات التجمهر. إنهم يبحثون عن «بعضهم البعض»، يريدون أن يتحرروا من الجدران العازلة، يفتشون عن مظاهر الحياة المفقودة، يطمعون في ممارسة بشريتهم بطبيعتها، وبتلقائية غير مصطنعة.
يمكنني القول إن مدننا الحديثة قد نجحت في بناء إمبراطورية من الخرسانة، وترسانة من البنية التحتية، لكنها ساهمت بنمط تخطيطها «اللاإنساني» في تفكيك نسيج المجتمع، وباعدت به الخطى؛ لذلك فإدارتها بحاجة إلى عمل كبير لخلق «أماكن المصادفة» تلك، والعودة من جديد للمدن والقرى والأحياء التراثية القديمة للاستفادة من فلسفة تخطيطها وعمارتها، و»كيف تصنع فيها الحياة»، وكيف يمكن الناس من ذلك «التعايش» الذي فقدوه فترة طويلة من الزمن. لم يعد هناك متسع من الوقت لخوض تجارب عمرانية جديدة.. الحكاية أسهل مما نتخيل.. علينا أن نعي فقط أنه «قليل من الأرض يكفي لكي نلتقي».
م. بدر بن ناصر الحمدان - متخصص في التخطيط والتصميم العمراني وإدارة المدن