د.خالد بن صالح المنيف
حكى أحدهم قصة جميلة فيها الكثير من الحكمة والعبرة والعظة.. يقول: «ابتُعثت لإكمال دراستي في إحدى الدول الغربية. وفي بداية الموسم الدراسي، وفي إحدى المواد التي اكتظت قاعتها بالطلاب، تم تقسيم الطلاب إلى مجموعات من 3 (طلاب), وكانت مجموعتي مكونة مني أنا وكاترينا وفيليب, وكنت أعرف كاترينا ولكنني لا أعرف فيلب!
ولأن أفراد المجموعة سيمضون معًا وقتًا طويلاً فقد كان التعارف بين الأعضاء أمرًا في غاية الأهمية!
لذا سألت كاترينا عمَّن يكون فيلب؟
أردت شيئًا من أوصافه؛ حتى أتعرف عليه!
فردت كاترينا لتقرب الصورة فقالت: فيلب ذلك الشاب الهادئ الذي يجلس في الصف الأمامي صاحب المداخلات العميقة!
فرددت قائلاً: الكثير يجلس في الصف الأمامي، ولم أميز فيلب من وصفك!
قالت: هو ذاك الشاب الأنيق ذو الشعر الجميل, هل تذكرته؟
فأجبتها بالنفي! وقلت: لعل وصفك يكون أكثر دقة!
قالت: هو ذاك الذي يلبس سترة أنيقة وبنطال جنز جميلاً مرتبًا!
هل عرفته؟ فهززت رأسي بالنفي!
وقلت: أرجوك صفي بدقة أكثر؛ تشوقت لمعرفته!
قالت كاترينا: هو ذاك الخلوق المهذب الذي يأتي على كرسي متحرك!
قلت: الآن عرفت من يكون فيلب!
ولكن ما عرفته أكثر وتعلمته هو الأسلوب الراقي الجميل المتحضر المهذب الذي استخدمته كاترينا!
فقد كان بإمكانها الجواب من الوهلة الأولى: هو ذاك الذي يستخدم الكرسي المتحرك!».
يقول صاحبنا: «وتخيلت مشهدًا معاكسًا.. لو كنت أنا من سُئل!
لكنت قلتُ مباشرة: ذلك الطالب المعاق المسكين!».
وللأسف، أحيانًا، وبدون وعي، إن أردنا وصف أحدهم نتجه مباشرة لعيب ما فيه!
هل ضاقت بنا الأبجدية عن أن نعرّف البشر وندل عليهم بصفات طيبة وعلامات جميلة؟
ولن أنسى ذات يوم حين سألتُ أحدهم في حفل زواج عن شخص مذكور بالخير، وكان حاضرًا الحفل، لكنني لا أعرف شكله!
فأشار لإحدى الجهات, وقال: صاحبك هو ذاك «الأحول»!
والمصيبة أنه لم يكن «أحول»؛ بل كان حورًا جميلاً! لكنه الطبع السيئ والعادة القبيحة!
وفي مناسبات النساء لا تستنكف بعضهن أن تصف غيرها وتعرّفها بأقسى الأوصاف وأشنعها! من قبيل (السمينة - المهذارة - سيئة الرقص - صاحبة النظرات الحادة)..
لا خيار لنا في هذه الدنيا إلا أن نكون أكثر لطفًا وأدبًا وتحضرًا ورقة؛ حتى يشيع الحب بيننا، وتمطر سحائب الود في أيامنا!
هل ضاقت بنا الحِيَل، وحارت معنا الكلمات حتى ندل على الآخرين بالمعايب؟!
أدرك أن هناك من يفعل هذا بحسن النية وطيب مقصد وصفاء روح.. ولكن هل حسن النية يكفي لنعيش حياة جميلة؟
يقول أحد الفلاسفة: لا يكفي أن يكون الإنسان أمينًا ونيته طيبة تجاه الآخرين، بل يجب أن يكون أيضًا متمتعًا بحسن الإدراك والفهم؛ لأننا قد نسيء للآخرين بعدم الإدراك وبعدم الفهم أحيانًا أكثر مما قد نسيء إليهم بالقسوة والظلم!
فقد كان - صلى الله عليه وسلم - ينادي الناس بأحب أسمائهم, حتى الأطفال الصغار كان يكنيهم أحيانًا (يا أبا عمير، ما فعل النغير؟). وأبو عمير طفل صغير..
ومن جميل المواقف التي تنم عن حسن خلق ما ذكره (المنفلوطي) عن المحدث الراوية أبي العيناء، الذي ابتُلي بفقد البصر. يقول أبو العيناء: «اختلفت أربعين سنة على الوزير ابن أبي دؤاد، فكنت إذا أردت الخروج يقول لخادمه: يا غلام، رافق الشيخ! ولا يقول أمسك بيديه»... مراعاة للمشاعر!
يستخدم البعض أسلوب السخرية والمعايبة أحيانًا لغرض دنيء، وهدف حقير؛ حتى ينبه إلى عيوب الآخرين، ويقلل من قدرهم!
والعجيب أن هؤلاء لا يجرؤون على ذكر هذا الوصف أمام صاحبه!
وبعض الناس - مع الأسف الشديد - لا تراه دائمًا إلا منتقدًا, عائبًا، ناسيًا أو متناسيًا صفات الآخرين الحسنة، ومركزًا على أخطائهم وعيوبهم فقط.. فهو مثل الذباب، يترك موضع الجمال والسلامة ويختار مواطن الجروح والقبح.. وهذا من سواد القلب ورداءة النفس وفساد المزاج.
ما أروع أن نملك عين النحل! نتلمس الإيجابيات، ونركز على مواطن القوة، ونصف الناس بأكمل صفاتهم وأجمل طباعهم!
ليس من شخص إلا وبه عيب، وصاحب نقص.. فهل يرضى أحدنا أن يوصف بهذا العيب ولو كان فيه؟!
كلمة واحدة ربما تكتب لصاحبها نهاية موجعة؛ فهل أدركنا خطورة الكلمة؟!
* ومضة قلم
مزاجك أمر خاص بك، وظروفك وحدك المعني بها.. ولكن أدبك مع الغير حق لهم! فلا تخلط بين الأمرين!