د.محمد بن عبدالرحمن البشر
لن أغوص في كتب أبي حيان التوحيدي، ولا في فلسفته، لكن ستكون هذه العجالة حول إسرافه في الاستجداء، وجعل ذلك جزءا من حياته الاجتماعية، وهناك من يقول إن بيئته قد جعلت منه ذلك الرجل بهذه الصفة، فهو مغمور النسب والوضع الاجتماعي، ولم يعرف لأسرته مجد تليد، وإنما هو رجل من عامة الناس، كما أنه عاش فقيراً، لاحقته الفاقة في حياته، وقد كان يرى بأم عينه التفاوت الطبقي في المجتمع البغدادي في ذلك الوقت، ناهيك عن تفاوت الدخل، وانحسار المال في يد أعداد قليلة، إضافة إلى أنه يرى بأم عينه ما يحضى به بعض الشعراء والأدباء والمؤرخين من جاه ومال بسبب قربهم من متخذي القرار، وهو الذي قد جعل الفلسفة له سلما لكنه لم تعطه ما يبتغيه من مال وجاه.
لقد لبس هذا الفيلسوف جبة التصوف، وحج إلى مكة المكرمة ماشياً على قدميه، كما تفعل المتصوفة، بل أنه قام بحجته تلك مع مجموعة منهم، وكان يحرص على اختيار أصحابه من الزاهدين في الدنيا في الظاهر، ربما كردة فعل لما يراه في مجالس الطبقة المخملية من بذخ وإسراف واستعلاء على الناس.
ومن عادته أن يذهب إلى مجالس الوزراء والقادة وذوي الشأن بثيابه الرثة ودون حاجه، حتى أن البعض يسخر من تصرفه هذا، ويراه أمراً مشيناً وهذا أقرب للصواب، لكن مكامن نفسه دفعته إلى أن يقول لأولئك الاستقراطيين، أن ما تنعمون به لا يساوي عندي مثقال ذرة، وكأنه يسخر منهم بفعله هذا، وهو الذي يجد في نفسه من الثقة والقدرة العلمية قدراً يرى به أنه أجدر منهم بالمال والجاه، هذا إذا علمنا أن تلك الفترة التي عاش فيها هذا الفيلسوف، كانت مليئة بالأحداث الجسام، فلا ترى إلاّ وقد برز رجل من عامه الشعب غير معروف، وليس لديه من الجدارة ما يستحق المكانة التي يعيشها، ثم لا يلبث أن يقتل أو يطرح به أرضاً.
وأبو حيان دائماً ما يعتمد في معيشته على بعض منهم أقرب إلى شاكلته، رغم أنه معروف لدى القادة وأعوانهم، ويبدو أنه يعيش شيئاً من التضارب النفسي الذي صنعته عده عوامل منها تاريخه ومجتمعه، وأصله، وعلمه، ولأن الفلسفة إذا زادت عن حدها ربما تؤدي بصاحبها إلى تبني بعض الأفكار الخارجة عن المألوف والبعيدة عن المنطق، وربما تقمصها للفت الأنظار إليه، عندما تتقطع به سبل العيش، وهو الذي ليس لديه الصبر الكافي، أو الذكاء الاجتماعي الذي يجعله قادراً على مسايرة مجتمعه، والتعامل مع الواقع بما فيه من إيجابيات وسلبيات، مع حقيقة عمق تفكيره.
أمر آخر يحسن التنويه به، وهو ما نقرأه بين ثنايا كتبه، من تهوينه بالآخرين، وازدرائهم، والانتقاص من قدرهم، وحسدهم على ما هم فيه من جاه ومال، وأسوأ من ذلك عدم وفائه لمن مد يد العون له مثل الوزير الصاحب ابن عباد، وكذلك ابن العميد، وغيرهم كثير من الوجهاء وأصحاب الشأن والفضل عليه. وربما أن بعضا منهم يصله من منطلق العطف عليه، وقد يكون ذلك أيضاً وقوداً لتجليات ما في نفسه من كبرياء، وإحساس بالمهانة من عند من يراهم أقل منه علماً وقدراً، وأن من الأولى أن يكون هو في ذلك المكان، وليس هؤلاء الذين يراهم لا يحسنون التدبير، بالقدر الذي يمكنه فعله.
وابن حيان كثير التشاؤم في حياته، ولهذا فنظرته سوداء نحو الأشخاص والأحداث، حتى أنه تمنعه عن إتيان أمور قد يحقق من خلالها بعضاً من أمانيه الدنيوية التي لا يظهرها وإن كانت كامنة في نفسه.
وحتى نكون منصفين له، فهو لا يختار أصدقاءه على أساس ديني أو عرقي أو مذهبي، وإنما يختار ما يحلو له من الناس، كذهابه إلى مجالس الوزراء وهو ساخط عليهم لما هم فيه من نعمة وسؤود، ولو أنه روض نفسه على أن الأرزاق بيد الله وأنه هو المعطي والمانع، لأدخل على نفسه بهيجة لا توصف، وسعادة لا تنتهي، ولا تتغير.
لا نعرف شيئاً عن صباه، لكن هذا لا يعني أن المرء لا يتغير مع مرور الزمن.
وبعد تولي المهلي الوزارة واحتضانه له، تم طرده من مجلسه يدل على أن الرجل منذ شبابه لم يكن في وضع نفسي قابل للتعامل مع علاة القوم، حيث إن تلك العلاقة لم تدم طويلاً، وبعد أن رحل إلى الري واستطاع أن يتقرب من ابن العميد وابنه أبو الفتح، عاد خالي الوفاق منهما معاً، ثم تقرب من الصاحب بن عباد، ولم ينل ما يريد، رغم أنه قد أدرجه في حاشيته.
هذا الرجل نموذجاً لبعض الأشخاص في سائر العالم، الذين لا يحسنون صنع التوازن بين الطموح والتوكل على الله، والرضا بما قسم، وبلوغ غاية السعادة بالرضا، بقي أن نقول إن هناك خلافاً في تسميته بالتوحيدي، هل ذلك عائد إلى نوع من التمر سمي التوحيد كان يبيعه، أو هو التوحيد الإيماني. والله أعلم.