محمد أبا الخيل
منذ فترة احتدم جدال بين الناس حول ما قيل «أن إنتاجية الموظف الحكومي لا تزيد عن ساعة من دوامه»،ذلك الجدل جعلني أتريث في كتابة هذا المقال، حتى تستقر الأذهان وتصبح في حال تجعلها تتقبل طروحات فكرية ونقدية لواقع العمل في القطاع العام، فالعمل في القطاع العام ينقسم بصورة عامة إلى قسمين من حيث طبيعة الأداء الإنتاجي القسم الأول هو ( العمل الميداني) وهذا يشمل أعمال المدرسين وأساتذة الجامعات ورجال الأمن والقوات المسلحة والمهندسين والفنيين والمراقبين، أي أنه يشمل كل عمل له ميدان ممارسة سواء كان في فضاء مكشوف أو فضاء مغلق. والقسم الآخر هو ( العمل المكتبي) وهذا يشمل نشاط كل موظف محكوم بمقعد خلف مكتبه ويؤدي أعمالا توثيقية،أو بحثية،أو إجرائية،أوتوصيفية،أوقضائية. ومعظم الأعمال الميدانية يحكمها معايير وتوصيف عمل قياسي ونطاق زمني، لذا يسهل على ممارسيها تأديتها بصورة تحقق الإنجاز والرضا ضمن الوقت المتاح للعمل، في حين أن الأعمال المكتبية تخضع لمعايير الإبداع والإجراء بلا ضوابط زمنية في معظم الحالات، أي أن هناك مساحة واسعة للإقدام على العمل أو الإحجام عنه، لذا ربما يجدر بنا حصر المقولة المذكورة في العمل المكتبي دون الميداني والذي سيتطرق هذا المقال لظواهره.
من أهم النظريات في علم الإدارة التنفيذية ما يسمى بقانون باركنسون حيث يقول «يتسع العمل ليشغل الوقت المتاح لتنفيذه»، هذا القانون هو المفسر للتوسع في البيروقراطية الحكومية، فمعظم الأعمال الإجرائية الحكومية نمت بصورة شجرية، أي أن الحاجة تبرر الإجراء دون النظر في المنفعة من تلك الحاجة. فقليل من الإجراءات الحكومية خضع لدراسة اقتصادية نفعية تبرر تطبيقها، بل إن هناك من يدعي بأن الإجراءات الحكومية يجب أن لا تنضبط بمعايير الاقتصاد والمنفعة، فهي إجراءات ضبط قانوني وسيادي لها معايير مختلفة تتمثل في الحرص والتوثيق و التدقيق ومراعاة الضغوط التي تحكم علاقة الحكومة بمواطنيها. هذا التعبير هو ما يحدد البيروقراطية الحكومية.
عندما تطور الفكر الإجرائي في المفهوم الإداري الحديث توجه لتطبيقات الحاسب الآلي كوسيلة لتحقيق الضبط والتزمين كمعيار للإنجاز، فظهر ما عرف لاحقا بنظام إدارة الموارد الحكومية (GRP)، هذا النظام والذي باتت توفره كثير من الشركات التقنية يعتمد على ما عرف اصطلاحاً بـ( الإجراء الأفضل )، فقد عمدت تلك الشركات التقنية على دراسة معظم الإجراءات الحكومية في عدة دول والتوصل لما كان الإجراء الأفضل لتحقيق أهداف العمل الحكومي، ومع ذلك هناك دول وحكومات لها متطلبات ومحددات جعلت حاجتها تقتضي تعديل تلك الإجراءات التي يديرها نظام (إدارة الموارد الحكومية ).
بعد فهم قانون باركنسون ونظام (إدارة الموارد الحكومية ) يصبح نقد العمل الإجرائي الحكومي منهجي إذا أخذ في الاعتبار ستة عوامل مهمة، الثلاثة الأولى منها تتعلق بالموظف شاغل الوظيفة الحكومية والثلاثة الأخرى هي مهمة المسؤول الأعلى في الجهاز الحكومي. فالعامل الأول هو الإلمام بالوظيفة من حيث معرفة مدخلاتها وكيفية إنجاز نشاطاتها وتقييم جودة مخرجاتها، الثاني هو الوجدان الذي يحمله الموظف للوظيفة من حيث الرغبة في تنفيذ نشاطاتها والرضا بحجم العمل والمخرجات وتقبل ضغوط الأداء و الثالث هو الحضور والتوفر من حيث الالتزام بالدوام والتواجد على رأس العمل والصحة النفسية والبدنية حين تنفيذ العمل، أما العامل الرابع فمتعلق بتوصيف العمل توصيف مكتوب مبني على دراسة للحاجة للوظيفة ودورها في تحقيق الأهداف العامة للجهاز الحكومي، هذا الوصف يحدد مكونات الوظيفة ومتطلباتها ومنتجاتها من حيث الجودة والكمية، العامل الخامس متعلق ببيئة العمل من حيث صحة العلاقات بين الموظفين و نمط الإدارة والتوجيه والإشراف والرقابة وتوفر الرغبة بين الموظفين للتعاون والتكاتف من أجل تحقيق الأهداف العامة للجهاز الحكومي, والعامل السادس متعلق بتوفير التجهيزات والأدوات الازمة لإنجاز العمل على أكمل وجه وذلك يشمل مناسبة المبنى وتوفر الإضاءة والتهوية والحرارة المناسبة للعمل و توفر التجهيزات الفنية والأدوات المكتبية اللازمة من حيث الفاعلية والجودة والعددية. هذه العوامل الخمسة لها تفصيلات ومؤثرات ومحددات يضيق هذا المقال عن التوسع في إبرازها، ولكن إذا توفرت هذه العوامل بالصورة المناسبة وعلى أكمل وجه، فإن إنتاجية الموظف ستكون ملائمة للحاجة من وظيفته ومحققة للرضا الوظيفي وربما الحياتي، والخلل في أي من تلك العوامل يؤدي إلى قصور في الإنجاز يستلزم البحث والتقصي لمرفة العامل المختل والعمل على إصلاحه.
مقولة « أن إنتاجية الموظف الحكومي أقل من ساعة في دوامه»، أثارت كثير من الموظفين الذي يلتزمون بدواهم ويجدون في أعمالهم ويراعون الله والأمانة فيما أوكل لهم من صلاحيات ورعاية لمصالح الناس، ومع ذلك فموضوع قياس الإنتاجية يؤخذ في المعتاد على الوظيفة وليس الموظف عند إجراء دراسات (التطوير المؤسسي) وتؤخذ كمحصلة للأداء العام كمؤشر لقياس فاعلية أي من الأجهزة الحكومية لغرض تحسين الخدمات أو دمج الأجهزة الحكومية عند الحاجة، وقد تدرس وتسجل لغرض التدريب والتطوير للموظفين والمشرفين، ولكن فيما عدى ذلك لامعنى لقياسها و لا حاجة. ومع هذا لابد من القول إن أداء الموظف بصورة مرضية للحاجة من وظيفته هي مسؤولية مشتركة بين الموظف ورئيسه المباشر والمدير الأعلى المسؤول عن الجهاز الحكومي و الوزير المختص, فكل منهم مسؤول فيما يخصه عن توفير العوامل المؤثرة في إنجاز العمل على أفضل ما يمكن، يبقى هناك عوامل خارجة عن القدرات الفردية مثل التكدس الوظيفي في الدائرة أو كثرة تغير الإجراءات والمنتجات.