د. محمد عبدالله العوين
صاحبت جل خطوات التحديث التي مر بها مجتمعنا، منذ أن توحّدت بلادنا على يد المؤسس العظيم الملك عبد العزيز - رحمه الله -، عواصف من التوجس والتخوف والقلق أو التشكيك في جدوى التغيير والاستجابة لضرورات العصر وقبول الجديد، وقامت سياسة الدولة - وفقها الله - على الرفق وطول البال، والتأكد من أن الوقت قد حان لاتخاذ قرار بتطبيق ما ترى فيه ضرورة، وسعت في الأخذ بما ترى فيه الصالح العام من القرارات إلى التدرج إلى أن يتم الوعي بضرورته وقبول الناس له. وفي هذا الأسلوب من الحكمة وبعد النظر والتعقل وحسن إدارة الأمور، ما حفظ لمجتمعنا خاصية الانسجام والاستقرار وعدم التصدع، وكانت النتائج إيجابية ولله الحمد في كل الخطوات التحديثية خلال ما يربو على ثمانين عاماً من مسيرة بناء الدولة الحديثة.
وعلى الرغم من محاسن ومحامد التأني الذي أشرت إليه في قبول أو اتخاذ قرار بشأن كثير من المستجدات التي لا بد من حسم الموقف بشأنها ؛ إلا أن ذلك أبطأ أيضاً بحسم التردد الاجتماعي في قضايا عدة مما زادها بمرور فترة التردد والانتظار الطويلة، شيئاً من التعقيد والتشابك مع توجهات أيدلوجية طارئة.
ولو عدنا إلى ذاكرة ما تم حسمه والانتهاء منه وقبوله بصياغة تتوافق مع مجتمعنا خلال ثمانية عقود، لحمدنا الله تعالى على أننا أنجزنا الكثير وتجاوزنا عقبات كثيرة، مررنا بها بسلام اجتماعي رائع واطمئنان، إلى مستقبل يبشر بقطف ثمار أسس نهضتنا الوطنية وبناء دولتنا الحديثة القائمة على أسس دينية ثابتة، وقيم أخلاقية عالية، وأصالة عربية عريقة، ورسالة نبيلة سامية.
فقد انتهينا من تحديث مناهج وطرق التعليم منذ زمن مبكر جداً، وانتقلنا من طرق التعليم التقليدي والعلوم والمعارف المحدودة، إلى تلقي علوم العصر كالرياضيات واللغات الأخرى ونحوها، بالإضافة إلى علوم الدين واللغة العربية، وأنهينا التردد في ضرورة ابتعاث أبنائنا إلى الدول المتقدمة لتلقي العلوم الحديثة في أهم الجامعات والمعاهد في دول العالم، وانتهينا من التوجس والتخوف من التعامل مع المختلف من الثقافات والأديان والطوائف ؛ لأننا لن نعيش في قارة معزولة ولن نستطيع أن نبني حيطاناً عالية تعزلنا عن العالم من حولنا، وحسمنا الموقف بشأن أمور كثيرة ؛ كالراديو والتلفزيون وتعليم المرأة وعملها وتمثيلها في مجلس الشورى.
وكأي جديد هيمن قلق اجتماعي على فئة من الناس حين أتى الهاتف العادي قبل أكثر من ستين عاماً على وقت « أبو هندل » ثم تم قبوله، وانتهت مشكلة « من ذا بيته ؟! »، ثم تم لاحقاً قبول « الجوال أبو كاميرا » وكان محل توجس، ثم تم قبول « الدش » وكان من يضعه على سطح منزله ينعت بألقاب شائنة ؛ ولكن كثيرين من المتوجسين والخائفين من قنواته أصبحوا لاحقاً نجوماً لامعة في محطاته!.
الخوف من الجديد ليس عيباً وليس غريباً ولا يخص مجتمعا دون غيره ؛ فهو طبيعة بشرية، وارتفاع حدته أو انخفاضها عائد إلى مفهومات دينية أو ثقافية أو تقاليد اجتماعية، والإنسان بطبيعته يألف ما تعوّد عليه ويصبح عزيزاً عليه، ويسعى إلى الدفاع عنه كأسلوب ونمط لا يود تغييره، وإن تغير الناس من حوله نحوه جاهد نفسه لمسايرتهم وقبول ما قبلوه على مضض أول الأمر إلى أن يألف ما ألفوه.
وتمر بنا قصص بعض المسنين الذين يجد أبناؤهم مشقة وعنتاًَ في الانتقال بهم من البيت الطيني القديم الذين عاشوا فيه سني عمرهم، إلى البيت الحديث في حي جديد مختلف، وهو الأمر نفسه حين تستجد أمور كثيرة لم يتعود عليها المجتمع.
وهذا الزمن الذي نعيشه الآن مختلف عن العقود السابقة كل الاختلاف ؛ فوجود الإعلام الجديد الذي اختصر المسافات بين الثقافات والأمم، كفيل أيضا باختصار زمن انتظار نضج رؤية المجتمع حول قديم معلق لم يحسم بعد كالسينما والمسرح وقيادة المرأة للسيارة، أو جديد طارئ سيحدث صدمة نفسية في أول الأمر وردود فعل مختلفة بين توجس وخوف وتردد ، ثم حسم وتكيف وفق شخصية وتكوين مجتمعنا الإسلامي الأصيل.
نحن نتغير، وهو أمر لا بد منه ؛ لكننا لا نتحول أو نتنكر أو ننقلب عن تكويننا وثوابتنا وقيمنا الدينية والأخلاقية، التي نعتز بها والتي هي أساس بناء دولتنا ومجتمعنا وضمان تماسكه وقوته وصموده في وجه القلاقل والفتن.