د.فوزية أبو خالد
مع أنني أستطيع بثقة وجرأة أن أدعي بأنه في تجربتي وفي وعيي وفي تقديري الشخصي لهما، لم أستطع قط عبر تاريخ كتابتي الطوووويل التجرأ على كتابة كلمة واحدة أو أي نوع من أنواع الكتابة دون أن أضع ضميري وعقلي وحواسي الستة ووجداني وكل تركيزي في كل حرف من أي قضية أتناولها، أكانت بحثا أو مقالا، قصيدة أونصا مفتوحا، رسالة عامة أو شخصية، وفي أي موضوع أطرح ثقيلا أو خفيفا، عميقا أو بسيطا، وسواء كتبته في حالة رضى أو حالة غضب، وبأسلوب ساخر أو آسر، غير أنني من مدة ومع تصاعد نسبة الدم في الأخبار اليومية بالعالم العربي وتحول الحياة السياسية إلى ما يشبه العماء أو عماء بواح وتحول الحياة الاجتماعية إلى التأرجح بين حالة توحد لا حل لها وبين حالة فصام وسادية وصراع طبقي ومذهبي وجنسوي واكتئاب حاد وما إليه من أعراض بلوغ سن الذروة العسكري وسن اليأس الاقتصادي والمراوحة عند سن ما قبل الرشد الفكري، بت أخشى كلما اقترب موعد المقال أن أكتب موضوعا من تلك المواضيع التي لا طعم لها ولا لون ولا رائحة لكنها عكس الماء لا تشكل سببا من أسباب الحياة إلا ربما لتبقي عمودا صحفيا على قيد الكتابة الأسبوعية ولا تتسبب في قطع تلك المكافأة المتواضعة التي عادة ما تخلعها الجرايد المحلية على كتابها بتكبر وشح وكأنها تقطعها من جلدها.
أعرف أولأتواضع قليلا وأقول أتوقع أو أخمن بأنه يتعين عليّ، إن لم أكن أريد أن أقطع رزقي القليل من الصحيفة وإن لم أكن أريد أن أنقض على صيتي ككاتبة في جريدة مرموقة من جرائدنا الرسمية وإن لم أكن أريد أن أسد بيدي صمامات رئتي أو نافذتي المتخيلة على المجتمع ومنبري الوحيد لإيصال صوتي كمواطنة للدولة، إلا أن أفصح عن هذه الخشية من الانزلاق من كاتبة متمكنة تملك رباطة الجأش لتطلب الكمال إن لم تدعيه إلى كاتبة تتحرك كريشة في مهب متاهة لا تملك من الشجاعة الا شجاعة الاعتراف ببطش الأسئلة بنحولها وقلة حيلتها وبشراسة عوادم السياسة على شبكيتها وعتمة شاشتها ولكن. وليس لدي تتمة للكن. هل أزعجت أحدا بهذه الصراحة الساذجة.
لماذا علينا أن نحافظ على الصورة أكثر من الأصل وعلى القناع أكثر من الوجه وعلى صيت الغنى أكثر من مواجهة الفقر وتعرية أسبابه.
هل على الكاتب ألا يشتكي وإن جرح العطش كافة مصاب الماء وألا يقلق وإن نهبته المخاوف على كل ذرة من التراب الذي يعشق ليحافظ على صورته أمام القراء أو ليبقي على صيته أمام رؤساء التحرير.
هل سمت السمت أهم من سمت مساواة النفس بعامة الناس الأسوياء في التعبير عن قلقهم ومخاوفهم ووساوسهم وشكهم في تماسك خطابات التطمين وفي تشابه رطانة كل من خطابات الموالاة وخطابات المعارضة وكل من خطابات المحافظة وخطابات الإصلاح وتعبهم من انعدام المصداقية والرؤية لكل منها على حدة ومجتمعة.
هل على الكاتب ليظل ولو وهما ضمن تلك الكوكبة اللامعة من النخبة المثقفة التي يدورجدل نظري وميداني عالمي ومحلي طويل عريض وساخن حول موتها أو تظاهرها بالموت ربما لئلا ترى تساقط أعضائها من موقعهم العضوي بالمجتمع إلى جحور المصالح أو لئلا تشهد تقدم الشارع عليها، أن يتظاهر هو الآخر بالرؤية في انعدامها وبالنبوءة في انقطاع الإلهام وبالتنظير وإن تحول إلى فسفطة.
أشعر بالإعياء وبالعافية معا من هذه الاعترافات المتلعثمة وكأنني أكتب لأول مرة بل كأنني أكتب لآخر مرة أوكأنني من شدة الحياء من نفسي قد أصبت في مقتل برهاب الكتابة أمام قلة حيلتي فيما يجري أمامي وحولي وكتابتي عن مواضيع أخرى كمعظم كتابات الصحف وكأننا لا نراه.
ماذا أردت قوله في هذا المقال لم أستطع وقد شارفت كتابة السطر الأخير منه أن أقوله. ولكن يمكن على طريقة خطابات التطمين أن أطمئن رئيس التحرير بأن أزمة الصحف الورقية هذه الأيام ليست أزمة إعلان ولا أزمة مالية ولا تلك الأزمة العالمية العامة للصحافة الورقية وقد تكون بعض من كل ذلك ولكنها بجدارة أزمة سياسة وفكر أي أزمة شخصية لكل منا وأزمة وطنية على مستوى محلي وعربي وأقليمي لكل منا.
القابضون على جمرة الخيال
كنت في سلسلة سابقة من مقالاتي الأسبوعية بهذه الجريدة قد قمت بالكتابة عن عدة شخصيات شاهقة من القامات الحبرية الحرة التي مرت بسماء الكتابة لهذا الوطن وتركت ريشة من أجنحتها أو بارقة من آمالها أورشة من عبير أحلامها وحنطة حبها على الساحة الثقافية. ومنهم المطرية دائمة الشمس د. فاتنة شاكر، والشاعر أحمد عايل فقيه ود. عبدالله الغذامي والمشرقة صبح مساء خيرية السقاف، وكنت أنوي أن أعود لتناول عدد من القامات الأخرى التي أشعلت قناديل العمل الثقافي من مرحلة منتصف السبعينيات إلى منتصف الثمانينيات وبعضها قاوم ولم يتوقف إلى الآن.
وكان صالح الأشقر كاتبا شغوفا بالحرية مجددا في القصة القصيرة، ومواطنا مخلصا وإنسانا مستنيراً وصديقاً لكل القيم النبيلة التي كالماء والهواء والكرامة لا يحيا بدونها الإنسان من الأفواج أو بالأحرى الأمواج الأولى التي كنت أود تسجيل طيف من تجربتها في حياتها ليس من باب الاحتفاء بمسيرتها في حياتها وحسب، بل وأيضا من باب إعطائها الفرصة لقراءة حفرياتها في روح من زاملوهم وعاصروهم ليكون لهم رأي إن شاءوا فيما يكتب عنهم. على أن إرادة الله اختارت الزميل الحيي العفيف لجوار ربه قبل أن يسعفني الوقت لتقديم قليل من حق الوفاء له في عنقي وعنق الصحافة الثقافية والحركة الأدبية ككل بالمجتمع السعودي خصوصا في ذلك الوقت المبكر من عمر اجتراحات التجديد. فليرحم الله أبا طارق ويجعله كريما عزيزاً في مستقر رحمته. وأحسن الله عزاء طارق وخالد وعبدالله ونهار وربيع وزميلتي العزيزة البندري الأشقر وكافة أفراد أسرة الأشقر والأسرة الثقافية و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}. وإلى الأسبوع القادم.
أنا وروحي مع بعض.. لكن أغراب ماكنها روحي.. ولا تقل مني
لك وحشة هجت للأحزان الأبواب لين العذاب اللي سكني.. دفني
مساعد الرشيدي لك رحمة وسعها السماوات والأرض بما تركته على هذه الأرض من عبير العمر وريحان الأحلام وبريق الأمل.