يوسف المحيميد
لم يكن مثقفًا وكاتب قصة فحسب، بل كان إنسانًا نبيلًا، شغوفًا بالكتابة، يسوق الكلمات بعشق شمالي نادر، شعرت حين رأيته أول مرة - وأنا في الثانوية - أنه يتلذذ بالكلمات، وقد دعاني إلى مكتبه بصحيفة الجزيرة في الثمانينيات، سنوات ازدهار القصة القصيرة في المملكة، كنت وجلاً حيث لم أدخل مبنى صحيفة في حياتي، ناقشني عن قصة بعثت بها للنشر، عن قرية وشيخ يتحكّم فيها، وفي مصائر ناسها، كان لطيفًا ودودًا حين عرفته أكثر، ودخلت منزله الذي عرفت فيه معظم الشعراء والقاصين، ليس في الرياض وحدها فحسب، وإنما من جميع أنحاء المملكة، ففي منزله الصغير بحي السليمانية، منزله الذي بلا أبواب موصدة، وبلا ضجيج كما مجموعته «ضجيج الأبواب» كان يجتمع كبار المبدعين الذين وضعوا أسس وفنيات القصة القصيرة السعودية، حيث تُقرأ القصص في أمسيات غير رسمية، ويدور نقاش مفتوح حول الجماليات سواء للقصة القصيرة أو الشعر.
حينما يحضر شاعر أو قاص من الشرقية أو الغربية أو أي مدينة أو قرية في المملكة، بدعوة من النادي الأدبي أو جمعية الثقافة والفنون، للمشاركة في أمسية شعرية أو قصصية، لا بد أن تُستكمل هذه الأمسية في منزل القاص الراحل صالح الأشقر، فتكون أكثر حميمية وبساطة وتلقائية من الأمسية الرسمية!
هل كان منزله صالونًا أدبيًّا، أم معرضًا تشكيليًا، أم حالة ثقافية مستمرة ومكتملة؟ هو كل ذلك، لكنه اختفى مبكرًا، ولم يبقَ من بيته سوى «ظل البيت» مجموعته الثانية بعد «ضجيج الأبواب» فقد تناسل من حوله الأصدقاء، ولم يتركوا خلفهم سوى الأحلام والذكريات وظل البيت!
رحل صالح الأشقر -يرحمه الله- مسكونًا بالحزن والمرارة والحنين، ولا أجمل من أن أختتم مقالي بمقطع من إحدى قصصه التي كلما اشتد عليه الظلام - وهو ظلام رمزي- يذهب إلى مقبرة (العود) باحثًا عن قبر والده:
«القبور تكاثرت وملأت الأرض، كلها متشابهة ومتجاورة، كأنها تلال صغيرة وسط صحراء قاسية ومهجورة وقاحلة.
قلت لنفسي الذليلة يومًا ما قريبًا ستدخل يا صاحبي إلى هذه الأرض، وسوف تنهش بشغف طائل جسدك الديدان، وتختفي بين هذه التلال الصغيرة وتُنسى، وربما لن تسعد بزيارة من أحد.. لا الأهل ولا الأصدقاء.
رآني حفار القبور وجاء مسرعاً وعلى وجهه ابتسامة طفيفة وقال: هل تبحث عن قبر صغير أم كبير؟
قلت له: قبر كبير!
قال ومتى ستدفنونه إن شاء الله؟
قلت له بصوت ذليل: لقد دفناه منذ زمن بعيد».