عرض - سهيلة طيبي:
غالبا ما يطغى عرض للجوانب السلبية عند التطرق إلى أوضاع البلدان العربية في الإعلام الغربي، أو في الدراسات والأبحاث التي يحبرها كتّاب غربيون، لاسيما عند تناول القضايا الداخلية وما يتعلق منها بالسياسة والدين والتربية والتعليم. وقد كان الأستاذ رضوان السيد قد أشار إلى هذه المعضلة في الدراسات الغربية في مقال منشور في «صحيفة الشرق الأوسط» بتاريخ 17 يونيو 2016، والتي يتحول فيها القدح المغرض إلى دوغما عاتية تكتفي بسرد القبح والذمّ ومحاولات اغتيال السمعة، والأمر ذاته غالبا ما يُسحَب عمدا على باقي الدول عند التطرق إلى المسائل الدينية والاجتماعية والقضايا السياسية فيها. نسوق هذا في مستهلّ عرضنا لمؤلف السفير الإيطالي السابق في الرياض أوجينيو داوريا، لما يطبع نصه من قطيعة مع نمط سائد من الكتابة. حيث يُعدّ كتاب «حجاب الجزيرة» محاولة رصينة للخروج من تلك الدوغما المستحوذة على الرؤى الغربية بشأن دول الخليج، في محاولة لتأسيس مقاربة موضوعية مغايرة تستند إلى التجربة والمعايشة لا سيما وأن الرجل أقام بالرياض طيلة الفترة الممتدة بين 2005 و 2010، وعلى العموم، ذلك الخلط له جذور.
في مستهلّ كتابه يشير السفير الإيطالي أوجينيو داوريا إلى تردده في تدوين شهادة يروي من خلالها تجربته السفارية في المملكة العربية السعودية، غير أن تشجيع عدد من الأصدقاء جعله يُقدم على هذا العمل. ناهيك عن عوامل أخرى دفعته للمضي قدما: تلك الرقعة الجغرافية الواسعة (سبعة أضعاف مساحة إيطاليا) والمأهولة بكتلة سكانية معتبرة (زهاء ثلاثين مليون نسمة)، والقوة الاقتصادية النافذة للبلد، والثقل السياسي المتزايد وهو ما بات يستقطب أنظار الملاحظين. ولعلّ الإحجام الأولي الذي راود السفير نابع من تلك المصادرة الشائعة كون الحديث عن بلدان الخليج العربي ينطوي على مفارقة تاريخية.
يقسّم المؤلف فهرس كتابه إلى تسعة عناوين يمكن إيجازها بثلاثة عناصر رئيسة: القضايا السياسية بتفاعلاتها الداخلية والخارجية؛ والمسائل الاجتماعية المطروحة في المملكة؛ وحيوية الأنشطة الاقتصادية للبلد. بعد بسطة تاريخية عن نشأة المملكة يستهلّ المؤلف حديثه عن الشأن السياسي الذي يستأثر بالقسم الأكبر من الكتاب بالإشارة إلى المفارقات التي تستحوذ على النظر الغربي.
ولا ريب أن مفهوم الحريات يخضع في مدلوله إلى منظور غربي، ناهيك عمّا يصحبه من توظيف متعمَّد، الأمر الذي غيّب تقاسم رؤية مشتركة في المسألة؛ لكن السفير داوريا يقرّ أن الصور النمطية الغالبة ما تتخفى عن أن المملكة السعودية تتولى فيها المرأة قيادة عشرين ألف مؤسسة، وكذلك يتساءل الكاتب هل ما زال معنى للفصل في ظل انتشار وسائل الاتصال الحديثة؟
ويقدّر السفير أن النهج البراغماتي الذي طبع سياسة المملكة، منذ حقبة الملك عبدالعزيز، قد أكسب الدولة قدرة على تسوية الخلافات أكان مع محيطها الإقليمي أو مع الأطراف الدولية معددا أمثلة في ذلك (تسوية الخلاف المصري السعودي إبان حرب اليمن الأولى، أزمة الحادي عشر من سبتمبر).
في القسم الثاني من الكتاب المتعلق بالقضايا الاجتماعية، يدور حديث موسّع حول إصلاحات العاهل الأسبق الملك عبدالله. وهو ما دفع أصحاب القرار لاتخاذ إجراءات حازمة مست المجالات التربوية والإعلامية والاجتماعية بقصد خوض إصلاحات تقلص من الضغط الغربي على المملكة. وفي ضوء هذا المأزق يركز السفير على الدور الفاعل للملك عبدالله في تدشينه مسارا إصلاحيا سمح للنساء بحق الانتخاب في المجالس البلدية، وإدخال تحويرات على البرامج التعليمية، ناهيك عن تشجيع البعثات الدراسية نحو الخارج بغية بثّ روح حداثية في المجتمع.
ودائما في مجال التعليم، تحاول الدولة تنويع التخصصات الدراسية باستدعاء عدد من المدرسين والأساتذة الأجانب، ولكن يبقى الرهان الأكبر على بناء جامعة وطنية رائدة على غرار جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية التي تم تدشينها سنة 2009 بوصفها القطب الجامعي الأهم في المملكة.
وبصفة صاحب الكتاب يطمح أن يكون مؤلفه مدخلا شاملا للإلمام بقضايا اجتماعية وسياسية واقتصادية، اغتنى النص أيضا بأوصاف أنثروبولوجية، لا سيما تلك التي تسترعي انتباه الغربي، حيث يذكر السفير أن من أكثر الأشياء إثارة لانتباه الزائر اتساق دورة الحياة مع مواقيت الصلاة. إضافة تتخلل الكتاب استطرادات مطولة يمرّ فيها المؤلف على سبيل المثال من الحديث عن قصة البترول إلى الحديث عن قصة المصور الإيطالي إيلو باتيجالي الذي حلّ في الأربعينيات رفقة شركة أرامكو.
وفي تناول المؤلف الشأن الاقتصادي في المملكة يوضح المملكة أن العربية السعودية لم تتّبع نموذج الدول البترولية التي أنشأت صناديق سيادية للاستثمار في الخارج على غرار النرويج، تكون قادرة على توليد مصالح لتوظيفها في حال تراجع الثروة البترولية أو نفاذها. فالعائدات البترولية جرى استثمارها في الداخل لدعم البنية التحتية، وبقصد تحويل الاقتصاد الريعي إلى اقتصاد إنتاجي يستند إلى نظام تصنيعي وخدماتي يسمح للمملكة بالاندماج في النظام العالمي الجديد، ويضعها على أهبة مواجهة فترة ما بعد البترول. وقد وفّقت ما في هذا المسار بفضل الإصلاحات الاقتصادية المهمة التي خاضتها والتي تمثلت في تنويع مصادرها الاقتصادية والتقليص من الارتهان للبترول، بخلق شبكة إنتاج تعوّض بشكل تدريجي المصادر الحالية غير المتجددة، ولا سيما في ظل ما سيشهده إنتاج المحروقات من تراجع في العقود القليلة القادمة.
هذا وقد حققت السعودية بالفعل نموا معتبرا في بعض القطاعات، معرجا المؤلف على المسألة المائية وكيف استطاعت المملكة تذليل الصعوبات فيها بإنشاء محطات تحلية عملاقة، ما انعكس على جعل السعودية سادس منتج حبوب في العالم، أهّلت البلد للانضمام إلى مجموعة العشرين.
في فصل ختامي من الكتاب بعنوان «نظرة إلى المستقبل» يذكّر السفير بالبناء القبَلي للمجتمع السعودي وهو ما يحفظ توازنه الداخلي. ثمة ترحيب في هذا البناء بالحداثة مع تشبث بالموروث الاجتماعي، لكن رهان الشبان يبدو غير رهان الشيوخ.
وبوجه عام، يدلي السفير برأيه في أوضاع المجتمع السعودي أكان في مجال الإعلام أو بشأن أوضاع المرأة أو حقوق الإنسان بحنكة ودبلوماسية، وليس من باب التنديد، بل من باب العرض الموضوعي، وهو أسلوب ناجع ورصين اتبعه الكاتب، ولعل ذلك عائد لخبرته الدبلوماسية. فالكتاب جولة نبيهة ومدققة في قضايا متشعبة في المجتمع السعودي وليس مجرد انطباعات عابرة.
* * *
* الكتاب: حجاب الجزيرة.. العربية السعودية بين القوالب الجاهزة والواقع المعيش.
* المؤلف: أوجينيو داوريا (سفير إيطاليا السابق بالرياض).
* الناشر: أوجيا-جامعة بوكونيه (ميلانو) ‹باللغة الإيطالية›.
* سنة النشر: 2016.
* عدد الصفحات: 287ص.