رقية سليمان الهويريني
سافرت أنا وأخي محمد إلى الرياض ونحن أطفال دون العاشرة، فأقام عمي عبد الرحمن مأدبة غداء كبيرة على شرفنا، ودعا لها أعمامي وعماتي وإخوتي وأخواتي، وفيما كنت ألعب مع الفتيات بجذل، كان أخي بحضرة مجلس رجال العائلة وعمي يدعو (لعيال سليمان، أنا وأخي) اللذين كانا سبباً باجتماع العائلة! وقد كنا حينها أيتاماً ضعفاء مكسورين، فكان فعله جبراً لخواطرنا، وتعويضاً عن فقد والدنا، وأجزم أن الله جبر بخاطره فأطعمه برّ أولاده وحب أقاربه وتقدير معارفه حتى وفاته رحمه الله!
لم يكن عمي عبد الرحمن من الموسرين بل كان موظفاً بسيطاً في شركة، وكان بلا مبالغة يصرف كامل راتبه على أبنائه وضيافة أقاربه حين يحلون الرياض، وتفقد المحتاجين منهم، وظل حتى وفاته يجمع (عيال علي وأحفاده وحفيداته) في العيدين على مدى أكثر من خمسين عاماً! وقد بادر بتزويج ثلاثة من إخوتي لبناته ليكون أباً حقيقياً لهم، واختار ثلاثاً من بنات أخوته زوجاتٍ لأبنائه حرصاً منه على توثيق عرى الأخوة بأسمى معانيها!
وعندما أبكي عمي عبد الرحمن وأتقبل به العزاء؛ فإني أعود بذاكرتي إبان رعايته جدتي (والدته) وقد أصابها الكبر والخرف فلا يكاد ينام ليلياً إلا بجانبها، وقد ظل على ذلك سنوات عدة يرعاها ويتفقدها، فاللهم أجزه عنا خيراً وتغمد روحه الطاهرة برحمتك.
وحين أبكي عمي عبد الرحمن؛ فإني أبكي الأبوة والحنان واللطف والكرم والتواضع والإحسان، فهو أيقونة الكرم المتكامل، ويعرفه أهالي البكيرية والرياض بأنه (عبد الرحمن السخي) وحسبه هذه الصفة.
وإني رغم ألمي وانهياري لفقدي عمي الحبيب؛ لأغبط الراحلين الذين يغادرون الدنيا ولم يفتنوا بزيفها وبريقها، وقد كان عمي عفيفاً عنها مترفعاً عن زينتها، أبياً عن إغوائها، لذلك رحل كريماً نزيهاً رفيعاً طاهر اللسان دمث الخلق!
وما كنت لدينا ونحن في اجتماعات الأعياد والدورية العائلية وهو يوزع بصره بيننا ويداعبنا وأولادنا وكأن الجميع أبناؤه! ويبتسم بفخر ويستعيد ذكريات أيام شظف العيش وقسوة الحياة الماضية التي عاشها، والرحلة المضنية إبان انتقاله من البكيرية للرياض، وكيف كبرت الأسرة الصغيرة وتحولت لقبيلة تضم أكثر من خمسمئة شخص يكنون لعميد أسرتها التقدير والاحترام والامتنان أن طوى عليهم جناحه وأرخى عليهم دفأه وأسبغ عليهم حنانه.
أبكي عمي الحبيب وأعزي أبناءه وأحفاده وزوجته وأعمامي وعماتي وأولادهم وأعزي نفسي وجميع (عيال علي)، وأرجو أن نقيم له وقفاً عائلياً باسمه تخليداً له ليكون مقراً لاجتماعنا، فلا يفرقنا الزمن، فقد كان في حياته حريصاً على اجتماعنا، فلنحقق رغبته النبيلة بعد وفاته.